الغضب أسوأ طريق إلى الحوار، الغضب أسوأ مدرسة لمعرفة الآخر، الغضب سبيل المجانين لتعريف الذات إلى الآخر.
إن كثيرا من الشعوب تسلك اليوم طريق الغضب، تحت ضغوط أوهام محض ذاتية، إزاء مخاطر التكيـّف والنوايا السيئة التي تعقبها، دون أن تمحوها دائما،
وإزاء مخاطر الاستغلال، كما سلكت، ولا تزال تسلك إزاء الهجوم العلمي والتكنولوجي.
لقد شعرتْ تلك الشعوب بالغضب قبل أن تفكّر، كما قال روسو عن نفسه، وهي الآن تحلم، وهاهي تلعبُ قبل أن تعمل، فيما تظن أنها تعمل، أو تقتل لعبها وحلمها، لكي تتشبـّه بدول العالم المتقدم.
ما أشدّ الإبهام في هذه الكلمات!.
يُبدّد الملك عبدالله بن عبدالعزيز هذا “ الإبهام “، فيؤكد واقع العالم، قائلا:
** إننا نعيش في عالم عبوس، يُنذر بأشدّ الشرور، وأدهى المخاطر الأمر الذي يستلزمنا، عربا ومسلمين، شعوبا وحكومات، الصراحة في القول والوضوح في العمل “.
لكن خادم الحرمين الشريفين مُتسلح كدأبه بالعقل الذي يقود صاحبه إلى الحقائق، مُجرّم الأهواء التي تـُغلف العقل بصدأ الغضب والتشنج، يدعو إلى العقلانية للتمييز بين الخير والشر، بين الحق والباطل، بين الجعجعة الانفعالية والفعل، فيقول:
** لقد وهبنا الله العقل لنـُميّز بين الخير والشر، بين الصالح والطالح، ولكن الأهواء تـُغلف العقل بطبقة من الصدأ، فلا تعود تنطبع عليه صور الحقائق “.
لعل صدأ العقل هو الموت إن كانت الأهواء تعني التراجع أمام الصعوبات المُنعشة في العمل والكفاح من أجل الإنجاز والإعمار.
لم يكن الملك عبدالله يوما إلا متفائلا، فيُعلن ذلك قائلا:
** إنني رغم دواعي اليأس مليء بالأمل، ورغم أسباب التشاؤم مُتمسكٌ بالتفاؤل، ورغم العسر أتطلع إلى اليُسر، إن شاء الله “.
يعرف الملك عبدالله أن الالتزام العربي الإسلامي بالإنسان في الكون، قد تبدو عليه اليوم مسحة من ضبابية، تغرق في عموميتها بالغضب والتشنج الانفعالي الآني، في الوقت الذي كان هذا الالتزام ريادة نبل في التاريخ الإنساني عند المفكرين العرب المسلمين من ذوي البُعد الكوني.
يوضح الملك عبدالله رؤاه في “ عالم اليوم الواحد “، فيقول:
** سلسلة متلاحقة من الأحداث لا يزال المراقبون والمحللون يجرون وراءها لاهثين الأنفاس، لا يكادون يُفسرون حدثا خطرا حتى يُواجههم حدث أخطر، لم يكن لهم في حساب. في الفترة القصيرة الماضية رحل نظام دولي قديم وحل نظام دولي جديد. تهاوت أنظمة بالية منذ الفطرة الإنسانية، ونشأت كيانات وليدة، وهبّت أعاصير، وانفجرت براكين. ولم يكن العالم الإسلامي بمنأى مما دار ويدور من وقائع فنحن نعيش اليوم في عالم واحد، تقاربت أجزاؤه، وزالت المسافات من حوله، ولم تدعْ ثورة الاتصالات والمواصلات سبيلا لأحد لكي يعيش في معزل عن الأحداث إيجابيّها وسلبيّها، على حد سواء “.
لكن: منْ نحن، وإلى أين؟
يُجيب الملك عبدالله بالقول:
** حريّ بنا والحالة هذه ألا يكون دورنا دور المُتفرج، بل نرفض الاكتفاء بمقعد خلفي، بعيد عن مسرح الوقائع والملاحم. حريّ بنا أن نكون في مقدمة المسيرة، نقود التطورات، ولا ننقاد لها، ونتفاعل مع الأحداث ولا ننفعل بها سلاحنا إيمان بالله لا يتزعزع، وثقة في نصره لا تضعف، مُستلهمين قوله تعالى: (ولينصرن الله من ينصره إن الله قوي عزيز) “.
عرَف الفكر العربي الينبوعي مناضلين وقفوا في وجه العوائق والعواهر التي ظلمت، وشاءت القمع، وقتـْل الفكر والإبداع: ابن حنبل، ابن تيمية، ابن رشد، ابن سينا....
لعل الالتزام هو أن كل معرفة تؤدي إلى إرادة: أن.. “ أعرف “، يقودني إلى أن.. “ اُريد “
وعبدالله بن عبدالعزيز “ يعرف “ كل ما “ يُريد “ من هذا العالم، فلا يستنكف عن القول بحزم الواثق:
** لا نستوحش من هذا العالم، بل نتعامل معه، برشد ووعي سياسي، وفق مصالحنا، فنحن أمة محكومة بقيم ومثل عليا إنسانية، ولن تستطيع قوة في الأرض أن تـُغيب أمتنا الحضارية عن دورها الإنساني في هذا العصر “.
يستطرد خادم الحرمين الشريفين قائلا:
** إن ديننا ينبذ العزلة وينهى عن زرع بذور الحقد والكراهية بين الشعوب، ولا يُوصد الأبواب أمام التعامل مع الآخرين، لمجرد أنهم يختلفون عنا في عقائدهم، بل هو دين سماحة يحثّ على التعايش في أمن وسلام وحياة كريمة. ومنْ تدبّر التاريخ، وتفكر في النصوص على بصيرة، أدرك أن المسلمين لم يكونوا ولن يكونوا أبدا، من المُفسدين في الأرض، وأنهم أبعد ما يكونون عن البغي والعدوان، لأنهم في الحقيقة، رسلُ رحمة ودعاة سلام وصنّاع حضارة، وبناة مدنية، يحملون الخير للبشرية “.
لأن الملك عبدالله يؤمن:
** أن جميع الحضارات تنبع من منهل واحد، كما وأن الحضارات استفادت من بعضها بعضا. وحقائق التطور الإنساني تثبت، بصورة جلية، حقيقة التكامل في ما بين الحضارات “.
يذهب “ ملك الإنسانية “ إلى ضرورة وعي الإنسان في كل مكان بأن:
** في كل حضارة جوانب مضيئة، لو تمسك بها أبناؤها لما كان هناك احتمال للصدام مع الحضارات الأخرى، ولقد حان الوقت لنبدأ حوارا حضاريا يقضي على الأفكار الشريرة، ويُعيد للإنسانية الأمل في مستقبل مشرق، بإذن الله “.
التزام الملك عبدالله بن عبدالعزيز بإنسانية الإنسان هو في النهاية، موقف أخلاقي.
يُفتش إنساننا عن إمكانية لبذر أفكار حول اعتبار الإنسان أكبر مقياس للأشياء، وأفعل مصدر للقيم، وعاملا فاعلا في العقيدة، وقادرا على أن يُصلح ذاته ومجتمعه، ويُفسّرهما بدون لجوء إلى خرافات وشعوذات منبعها الغضب والأنانية، وأخ للجميع، بغض النظر عن الأعراق والألوان والثقافات، ومسؤول عن كل إنسان، عن عذاب كل إنسان، ومُلتزم بالحياة والجنس البشري كافة، وبوطن واحد لكل البشر “.
من هنا يُدرك الملك عبدالله، يقينا، بأن المملكة العربية السعودية هي:
** مهمة للعقيدة، وللجغرافيا الخليجية، وللعلاقات الدولية “.
من هذا المبدأ آلت المملكة على نفسها، بقناعة راسخة، منذ أسسها الراحل العظيم الملك عبدالعزيز على أن تكون على حد تعبير الملك عبدالله:
** دولة محبة للسلام، تنشد العدل، وتحترم حقوق الإنسان، وتعمل على تسخير ما حباها الله من نعم عديدة لتحقيق تطلعات شعبها، وتطلعات الشعوب العربية والإسلامية، ضمن مفهوم إنساني مشترك، يجمعها مع كل الشعوب المحبة للخير والسلام “.
ثمة اُفق آخر مضيء، دائما يُمكن أن نراه مع عبدالله بن عبدالعزيز، إذا حدّقنا جيدا.
Zuhdi.alfateh@gmail.com