|
تحقيق - راشد الزهراني:
في أحد البيوت العادية في مدينة جدة يقبع في خزانة قديمة ختم الدولة الحميرية التي سادت قبل بضعة آلاف من السنين في جنوب الجزيرة العربية، ومع ذلك لا تعلم سوى قلة بوجود مثل هذا الأثر الذي لا تقدر قيمته بثمن، وهذا هو حال الكثير من آثارنا ومقتنياتنا الأثرية التي تحتضنها دور نشأت بجهود طوعية مقدرة ومخلصة لكنها دائمة الشكوى من جور الآخرين خاصة المعنيين بهذه المسائل.
وقد تلقي المحاولة التي تقدم عليها ( الجزيرة) من خلال هذه الجولة الضوء على جوانب عديدة معتمة من تاريخنا، حيث إن معظم آثارنا خارج دائرة الضوء أما القليل الذي أتيح للناس التعرف عليه فيتم بمجهودات ذاتية يحركها ولع شديد بالتاريخ، وهم لم ينتظروا عونا من أحد حتى يقيموا متاحفهم الصغيرة التي تنتشر في بقاع عديدة من المملكة، وقد طالب بعضهم بالفعل بتحرك فاعل نحوهم، لكن أصحاب الشأن يقولون انهم يقدمون الكثير. نحن نتطلع بالطبع إلى اهتمام لا ينقطع بمسائل تتصل بتاريخنا، ولطالما احتضنت هذه البقعة التي نعيش عليها أحداثا جسام على مر التاريخ، ولا بد أن هناك الكثير من مخلفات تلك الحقب الزمنية بنجاحاتها واخفاقاتها وأمجادها وانتكاساتها.
آثار بالملايين
نعود إلى ختم الدولة الحميرية حيث يقول المجوهراتي حسين بن عبد الله الغامدي انه يحتفظ بمجموعة من القطع الأثرية القديمة التي وجدها في خزانة لوالده، رحمه الله، التي يعود تاريخها إلى أكثر من ( 3000 سنة ) وهي عبارة عن مجموعة تماثيل وكذلك نقود أثرية قديمة وأيضا ختم الدولة الحميرية، مشيرا إلى أن والده ورث هذه الآثار عن آبائه وأجداده.
ويضيف: «زارني سائحون من مختلف الجنسيات، يدركون تماماً صحة هذه الآثار وسلامتها وتقدير تاريخها، وقد دفعوا لي مليون وخمسمائة ألف ريال سعودي، وبعد أن استشرت مجموعة من الخبراء والعلماء لم يقتنعوا بهذا المبلغ، واقترحوا خمسة ملايين ريال سعودي كسعر لهذه الآثار أي ما يعادل 250 مليون ريال يمني، وهذا المبلغ قيمة ختم الدولة الحميرية فقط.
ويواصل: «وقبل فترة عرض علي رجل أعمال يمني من كبار الصاغة وهو صديق ويفهم في مثل هذه الآثار، أكثر من 100 مليون ريال يمني مقابل ختم الدولة الحميرية ومجموعة النقود القديمة فرفضت».
تشكيلة حضارات
وماذا هناك أيضاً ؟المزيد من القطع النادرة، بل والقصص النادرة وهذه المرة على لسان مفرح حسن جلي ويمتلك ما يزيد على 300 قطعة أثرية ، بعضها من أندر القطع العالمية ، تبدأ من اقدم الحضارات الإنسانية في بلاد ما بين النهرين ، وحتى الدولة السعودية الأولي، آثار من 4 آلاف سنة ويحتفي مفرح بهذه القطع بأسلوب خاص ، فهو يحفظها داخل أوان زجاجية مفرغة من الهواء ومثبتة بشكل متقن ، وتحتوي مجموعته ، على عملات نقدية ، ومصابيح زيت ، ودوارق زجاجية وفخارية ، وأختام وتماثيل برونزية ، وأوان نادرة كان يستخدمها الإنسان القديم.
أسرى الهواية
وعن كيفية جمع هذا العدد الكبير من الآثار ، يقول مفرح جلي: « لقد تمكنت الهواية مني ، ولا أستطيع أن اقف مكتوف اليدين وحالما أعرف أن هناك قطعة أثرية معروضة للبيع، فإنني أتحرك صوبها ، وأعمل المستحيل للحصول عليها، ولو بالاستدانة من الزوجة أو من الأهل أو الأصدقاء «.
وعلى الرغم من أنه يملك ثروة ، إلا أنه يرفض بشكل قاطع بيع أي منها مهما كان الثمن ، ويبرر ذلك: « أعتقد أني مؤتمن على هذه الثروة، فبعد ما حدث في العراق، أشعر بأن من واجبي الحفاظ على كل قطعة أثرية في العالم مهما صغرت أو كبرت ، لذلك عرض علي بيع بعض القطع بمئات الآلاف، ولكني رفضت».
نداء إلى هيئة السياحة
وحتى الآن نحن لم نبرح دائرة الاهتمام الشخصي الخاص على الرغم من عظم المجهود وعلى الرغم من ندرة هذه المقتنيات، ويدعو هؤلاء الهواة المجدون إلى نظرة جادة إلى ما يقومون به من جهود جبارة، وبينما يعتبر مفرح جلي نفسه مؤتمن على هذه الآثار، فإن حسين عبد الله الغامدي يدعو هيئة السياحة عبر (الجزيرة) إلى أن تهتم بإنشاء متحف خاص بالآثار التاريخية داخل الجزيرة العربية أو خارجها، لما لهذه الآثار من أهمية لدى الكثير من هواة السياحة وزوار الآثار.. ويضيف:» هذه الآثار التي بحوزتي من الصعب أن تبقى في خزانتي دون وضعها في متحف يعتني بها ، أفكر في زيارة المتاحف التاريخية في الدول العربية لأخبرهم بهذه العينات الموجودة عندي ومن ثم نقوم بعمل عقد اتفاق لحفظ الحقوق خاصة أن هذه الآثار الموجودة عندي سليمة وصحيحة ولم تتعرض للسرقة أو ما شابه، فأنا تاجر مجوهرات، وأدرك تماماً ثمن هذه الآثار ولو وضعناها في مزاد عالمي لوصل سعرها إلى ملايين الدولارات».
جمعية للمتاحف
وكما رأينا وسنرى فإن هؤلاء الناس يقدمون حلولا من أجل وضع الآثار في المكان اللائق بها، وهم في غضون ذلك يواصلون عملهم الشاق المحبب إليهم فالأمر لدى معظمهم هواية إن لم يكن مسؤولية يتشرفون بحملها، ومن ضمن المقترحات ذلك المقدم من محمد الغامدي بتكوين (جمعية أصحاب المتاحف الخاصة) وقال انهم رفعوا ذلك إلى سمو رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار وفي انتظار الموافقة، مشيرا إلى أنها ستزيل من أمامهم الكثير من المعوقات، فضلا عن أنها ستوفر قاعدة ثابتة يسير عليها أصحاب المتاحف الخاصة.
اهتماماتهم لا تشملنا
من جانبه قال بدر الصبحي الذي يمتلك متحفا خاصا انه لا يوجد تعاون مباشر بينهم وبين الهيئة العامة للسياحة والآثار ولا مع الثقافة والإعلام، ويضيف: «حاولنا أكثر من مرة أن نتقرب منهم، وقد زرت فروعا لهم، ولكن يبدو أن لهم اهتمامات أخرى، أو أن هناك ما يشغلهم في الوقت الحالي، ولكن نتمنى أن ينتبهوا لنا في وقت قريب وأن يكون هناك تعاون بيننا وبينهم.»
ويقول الصبحي أيضا: « نحاول توفير ميزانية للعمل على إقامة معارض كل ثلاثة أو أربعة أشهر في مختلف المناطق تتحدث عن تاريخنا، ولكن هذا الأمر يحتاج إلى جهد ووقت والتزامات مالية لتهيئة المكان، خاصة أننا لا نتلقى أي دعم مادي أو معنوي من قبل الهيئة العامة للسياحة والآثار».
السياحة ترد
الدكتور علي الغبان نائب رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار علق على الاتهامات بأن الهيئة تتجاهل أصحاب المتاحف قائلاً: « الهيئة لم تغفل المتاحف الخاصة، كما أنها تقدر الجهود التي يبذلونها للحفاظ على التراث الوطني، فقد عملت الهيئة على وضع توصيات الملتقى الذي جمعها بأصحاب المتاحف في حيز الاهتمام وأنها تتابع التنفيذ، ونتج عن ذلك توجيه وزارة الشؤون البلدية والقروية بتخصيص أراضٍ تمنح لأصحاب المتاحف الخاصة وفق الأنظمة والتعليمات التي تتبعها الوزارة في هذا الشأن».
وأكد أن الهيئة تسعى إلى تقديم العون لأصحاب المتاحف الخاصة ومساعدتهم في تحسين عروضهم المتحفية، والترخيص لمتاحفهم والتعريف بها على موقع الهيئة الإلكتروني، وتقديم الدعم الفني المتعلق بالعروض المتحفية، وترميم القطع الأثرية المصنفة كتراث وطني، ومتابعة تشغيل المتاحف بهدف تحقيق أكبر فائدة ثقافية واقتصادية منها.
منحة للإيجار!
أحمد جلال وهو صاحب متحف أثري للأجهزة والآلات النادرة يكشف أن قرار وزارة الشؤون البلدية والقروية قد أخذ منحى آخر، حيث تحول إلى تأجير قطع أراضي لإنشاء متاحف عليها، وقال: «خلال لقاء أصحاب المتاحف الأول مع الأمير سلطان بن سلمان أوصى سموه بتوفير قطع أراضٍ لأصحاب المتاحف والمقتنيات الأثرية، إلا أننا تفاجأنا بأن ذلك يتم بالتأجير وأنها ليست منحا».وقال محتجا: ما الفائدة التي سنجنيها - كأصحاب متاحف - عند دفع ثمن هذه القطع أو الحصول عليها بالإيجار.
وأضاف: «نحن نشتري القطع الأثرية من قوت أبنائنا ورزقهم، وبدلا من أن يمنحونا قطعة الأرض يقومون بتأجيرها لنا لعرض هذه القطع عليها! هذا فوق إمكاناتنا، ولا سيما أننا لا نقوم بأي عمل استثماري لهذه المتاحف بل نستقبل الزوار مجانا ونقوم بأعمال الصيانة والنظافة على حسابنا الخاص».
تجارة إليكترونية
ولدينا هنا وقفة حول الكيفية التي يشتري ويبيع بها أصحاب المتاحف مقتنياتهم، ونترك الحديث لأحمد الزهراني الذي أنشأ أول موقع للمتاحف الخاصة، يقول: « الشراء والبيع يتمان بترخيص من الدولة، وهناك ثلاثة مقتنيات عادة ما توجد في المتاحف أولها: الآثار وهذه تعتبر قطعا مملوكة للدولة ولا يمكن أن نشتريها أو نبيعها إلا بترخيص من الدولة ومعروف أن أسعارها غالبا ما تكون باهظة، فلا يمكن لأي كان أن يشتريها، كما أنه لا يمكن بيعها وشراؤها عن طريق الموقع بل غالبا ما تكون للعرض.
وبين أن النوع الثاني هو ما يعرف بالتراث وهذا هو المتداول بيننا كالأواني والملابس وما يشابهها من القطع الأثرية، وهذه يمكن بيعها وشراؤها من خلال الموقع ودون الحصول على ترخيص أو إذن فهي ملك للشخص، والنوع الثالث هو ما يعرف بالتذكار أي ما يكون في مناسبات معينة كالذكرى المئوية للمملكة وتوضع شعارات بهذه المناسبة على ترامس الشاي والقهوة وغيرها هذه التذكارات أيضاً يمكن أن نشتريها ونتناقلها.
ثم ينتقل الزهراني إلى الموقع الإلكتروني ويقول: « لقد أنشأته مجموعة من أصحاب المتاحف الخاصة، وهو يجمعهم تحت سقف واحد بهدف دعمهم ومناقشة كل ما يتعلق بالتراث والقطع الأثرية وكيفية تبادلها إضافة إلى وجود قسم خاص للمزاد العلني وذلك لبيع القطع الأثرية .
وقال إن الموقع يستهدف دعم أصحاب المتاحف الخاصة وذلك هدفه الرئيسي، مشيرا إلى أن طريقة المزايدة تتم من خلال الموقع وذلك بعرض القطعة الأثرية بالقسم الخاص في المزادات لمدة أربع وعشرين ساعة ومن ثم تبدأ المزايدة عليها ويمكن بيعها لأي شخص في أي منطقة داخل أو خارج المملكة ومن ثم إيصالها له عبر البريد السريع، بدلا من أن يتحمل الشخص عناء السفر لمسافات بعيدة، وأوضح: «من خلال الموقع نعمل على توفير القطع الأثرية بسهولة أكثر فبدلا من أن يتحمل الشخص عناء السفر لمسافات بعيدة لدخول مزاد في منطقة معينة يكون ذلك عن طريق الإنترنت أوفر وأسرع».
ولا يقتصر الأمر على البيع والشراء حيث يهدف الموقع أيضاً إلى التعريف بهذه المتاحف وبأصحابها الذين بذلوا جهودا كبيرة في جمع المقتنيات وشرائها بمبالغ هائلة للحفاظ على التراث الأصيل من الاندثار والضياع، دون أن يتعرف على هويتهم الآخرون، لافتا إلى ضرورة تكريمهم وإظهار دورههم».
وقال الزهراني لقد حقق الموقع خلال السنوات الماضية نجاحا ملموسا « فقد أصبح لدينا عملاء داخل وخارج السعودية في لبنان وقطر ودول الخليج العربي، وتحول الموقع إلى رابط لجميع هواة التراث وسهل تواصلنا والتعارف بين الأعضاء».
مشكلات الترخيص
وكما رأينا من قبل فإن متاعب أصحاب المتاحف لا تنتهي فهناك أيضاً صعوبة الحصول على تصريح أو ترخيص رسمي بمزاولة العمل، ويقول أحدهم - بدران البدران- : « يتعين أولا تقديم طلب للهيئة، مع تزويدهم بصورة لكل قطعة موجودة إضافة إلى كتابة نبذة عن هذه القطع وتوضيح سعرها، الأمر الذي يعني أني بحاجة إلى عدة سنوات للانتهاء من ذلك، فأنا لدي ما يقارب 5000 «.. وأعرب بدران عن الأمل بوجود آلية أسهل من ذلك للحصول على ترخيص للاستثمار.
ويبلغ عدد المتاحف الخاصة والمجموعات في المملكة حوالي 500 متحف ومجموعة، تم الترخيص لـ 64 منها، وهي المتاحف التي تنطبق عليها الشروط التي حددتها الهيئة، والمنتشرة في مختلف مناطق المملكة.
عودة للمتاعب
هناك دائماً مسألة صعبة ما وراء كل متحف فالعم على الزهراني ( 76 عاما) أمضى ستة عقود من عمره في مهنة الآثار، وتتمثل معاناته التي تحدث إلى ( الجزيرة) عنها في سيول داهمت محلاتهم ما دفع أصحابها إلى العزوف عن المهنة نظرا للخسائر الباهظة التي تحملوها، ولفت: «نحن بانتظار التعويض».
نصيف : متاحف مجهزة لكنها خاوية
انتقد استاذ علم السياحة والآثار وعضو مجلس الشورى الأستاذ الدكتور عبد الله بن نصيف ما وصفه بالإخفاق الكبير الذي صاحب البرنامج الخاص بإنشاء عدد من المتاحف المحلية والإقليمية في المناطق الأثرية البارزة في المملكة، مثل العلا وتيماء والجوف ونجران والمنطقة الشرقية وغيرها ، حيث تم تنفيض المباني وتأثيثها وتجهيزها وصرفت عليها ميزانيات كبيرة لكي تستقبل ما يتم العثور عليه من آثار ومواد أثرية متنوعة لتعرض للجمهور ليعرفوا تاريخ هذه المنطقة.
وأوضح أنه على الرغم من انقضاء أكثر من عقدين من الزمن على إنشاء هذه المتاحف لا تزال خالية وخاوية إلا من بعض الأدوات المسماة بالتراثية، ودعا إلى الاهتمام أكثر بتراث البلاد وحضارتها؛ حتى تكون هناك بداية لنهضة أثرية شاملة، كما حث على عرض الآثار المكتشفة حديثاً في المتاحف والمعارض السعودية المحلية، وكذلك الدولية؛ كي يعرف الجمهور أهمية المنطقة وتراثها العريق.
ولفت نصيف إلى أن أرض المملكة غنية بالآثار التاريخية المهمة المغرية للاكتشاف والتنقيب، وقال إن النشاطات التنقيبية التي تمت مؤخراً أكدت ذلك، كما كشفت عن بقايا بشرية ومجسمات لحيوانات وأوانٍ صناعية يعود تاريخها إلى 9000 سنة قبل الميلاد، لحضارة إنسانية متقدمة جداً من فترة العصر الحجري.
وقال الأستاذ نصيف ان منطقة الجزيرة العربية، كما يعلم الجميع، هي محط أنظار الرَّحالة الغربيين منذ فترات قديمة، وان المملكة لها جذور تاريخية وحضارية عريقة ولها مساهمتها في بناء الحضارة الإنسانية وهي امتداد لمساهماتها التاريخية الموغلة في القدم.