** كان درسًا مهمًا في حياته حين استدعاه معلمُه في الصف الرابع “غفر الله له” - وكان محبًا له حفيًّا به، فأعطاه ورقةً وهمس له أن اذهبْ بها إلى المعلم المسؤول عن جدارية “حكمة اليوم” وقل له: هذه حكمةٌ اخترتُها أنا ولا تشرْ إلى أنها مني فهي مذيلةٌ باسمك.
** شاء حفزَ الصغير ليكون كبيرًا، وأدهشه - والحكاية تستعيدُ مشهدها - أنه حمل الورقة كما شاء أستاذُه لكنه أخبر مسؤولَ اللوحة الإرشادية أن هذه الورقة ليست منه بل من أستاذه، وعاد ليختم الصورة بمصارحة معلمه “الذي اختصه بهذه الهبة” أنه قال الحقيقة، ويستعيد انزعاجه واستفهامَه: لماذا فعلتَ ذلك؟ ويتخيل لسان حاله معبّرًا عن خيبة أمله في تلميذه، ومع ذلك فقد وضع أستاذُ الجداريةِ اسمَه مع الحكمة.
** وبصدقٍ وتجرُّدٍ لا يعلم ما الذي دفعه لقول الصدق بالرغم من ألاّ ضررَ في استعارةِ قول مأثور كان يمكن له اختيارُه بنفسه أو بمساعدةِ والده لو طُلب منه، ويجزم أنها لحظةٌ خارج التفكير المسبق، لكنها أصّلت مفهومًا حول انعتاق العقل من أن يكونَ وعاءً مدلوقًا مهما سعت الوسيلةُ وسمت الغاية، وفي لحظةٍ مفصليةٍ هاربةٍ من تنميط الحياة نخلو بأذهاننا المنشغلةِ والمستأجرةِ ؛ فنستقطع وقتًا ضئيلًا تضِنُّ به مساحاتُ التيه التي لا تعلمُ اتجاهات الريحِ والروح، وحين تجودُ به فإنها تستحثُّنا العجلة لتعود سيرتَها الرتيبةَ الكئيبة.
** تستعيدُ هذه التقدمةُ مدرسة “برتراند رسل” التحليلية ؛ فالذهن غيرُ المادة، وقد ربط بينهما بالمادة المحايدة أو التكوين الثالث الذي قد يتحوّل إلى فكرٍ مجرّدٍ عبر التحليل، أو حسٍ ملموس من خلال التجميع، وربما وجدنا في معتكف الذهن العابرِ ما يمنحنا إشارات ضوءٍ لما نستطيعُ خلقه لو تجاوزنا إعارةَ عقولنا ليسكنها سوانا.
** القصة الصغيرة تصنع رواية، وإعارةُ الذهن تبدأُ بتهميش السؤال أو رفضِه وتقليديةِ الإجابة أو فرضها، ومن يأذن بنقل فكرةٍ ليست له أو منه قد يستطيبُ إخضاعَ العمل الذهني لمرابحات، ولو اعتاد شبابنا مهارةَ المحاكمة المتقدمة على الحكم التالي لتضاءلت أرضياتُ التبعية التي تقود إلى تحشيد الأتباع وخلق لغة الفُرقة والفِرق، وكثيرٌ ممن يمنحون أذهانهم لسواهم يقفون عند السطر الأول في الجدل ويختمونه بفقرة: هذا ما قاله فلان؛ أفأنت أعلمُ منه؟ والقضيةُ ليست مطاولةً في التعالم، ونعلم أنّ ممن صاروا مرجعياتٍ مهمةً عاديين في علمهم يؤخذُ منهم ويُردُّ عليهم.
** عشنا في زمن ما قبل التصنيم، وساعدَنا ذلك على ألاّ نهابَ الحوارَ مع أساتذتنا ؛ وفيهم علماءُ كبارٌ، وامتدّ ذلك ليبلغَ ما تواضع عليه الناسُ اليوم بالمسلّمات، وربما تجاوز كلَّ الخطوط الحمراء؛ فما صنفونا وما بخسوا علاماتنا، كما ازداد احترامُنا لهم في حياتهم وترحمُنا عليهم بعد وفاتهم.
** المكاشفةُ تحليلٌ وتعليل.
ibrturkia@gmail.comt :@abohtoon