تناولت في مقالات سابقة أدوار الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وإمكانية نجاحها في رفع مستوى الثقة بين المواطن والمسؤولين. وتعرضت لأدوارها أحياناً بالنقد، وأنها لا تملك السلطة الرقابية المستقلة لإيقاف هدر المال العام. وليس ذلك بسبب عدم كفاءة منسوبيها، ولكن لأن قواعد تأسيسها لم تخرج عن النمط الإداري الهرمي. ولأن السلطات التشريعية والرقابية غير مستقلة عن الهيكلة التنفيذية، لذلك نسمع أحياناً عن ملاحظات الهيئة عن القصور التنفيذي في وزارة الصحة أو مراقبة النفايات، في حين تكمن مهمتها الرئيسة في كشف الفساد في أجهزة الدولة وتقديمه للقضاء.
في مقال اليوم سأتوقف لأشيد بما أعلنه معالي الأستاذ محمد الشريف خلال ورشة عمل أقامتها الأسبوع الماضي جمعية “نزاهة” بالتعاون مع الهيئة الملكية للجبيل، ونشرتها وسائل الإعلام، أن “إقرار الذمة المالية سيشمل الوزراء ونوابهم، وكل من هو في منصب قيادي، ولو كانوا على رأس العمل من عشرات السنين، وستتم محاسبة الجميع دون استثناء، حتى ولو كان المسؤول من الأسرة الحاكمة”.
أفصح الأستاذ محمد الشريف بتصريحه هذا عن مدى الثقة الملكية في الهيئة، وعن النية الجادة في المضي في طريق النزاهة، ذلك لأن مكافحة الفساد تبدأ من أعلى، وليس من أسفل السلم. وذلك لأن الأوساخ تنزل من أعلى إلى أسفل، وليس العكس. إذا صلح حال النخبة صلح حال العامة، فالأخلاق العامة تتأثر بسلوك الطبقات العليا. وإذا تم التعامل مع قضايا الفساد بهذه الرؤية الحازمة والصحيحة ستكون النتائج مبهرة، وسيكون الكبير والصغير على حد سواء تحت سقف القانون، ولن يتجرأ أي كان على مد يده على المال العام أو الثروة الوطنية، والتي من المفترض أن تكون ضماناً لمستقبل هذا الوطن، لا أن تكون وسيلة للثراء عند البعض.
إذا كان هناك كبائر لا يمكن العفو عنها في حق الوطن، مثل التلاعب بأمن الدولة والإرهاب وإثارة الفتن، فإن سرقة المال العام هو أم هذه الكبائر، لأنه الباب الذي يشرع كسر المحرمات الوطنية، ويقلل من هيبة الدولة، ولا يتوقف الأمر عند ذلك، ولكن يفتح باب التشكيك في ذمة المسؤولين ونزاهتهم، وبالتالي يكون مبرراً للخروج عن القانون وانتشار الرشوة والسرقة والمحسوبية. لذلك جاء تصريح الأستاذ الشريف في محله، وفي مواجهة المسكوت عنه في الإعلام. وأعتقد أن هذه الخطوة ستكون بمثابة النقلة الكبيرة في العقل السياسي السعودي، وستفتح الباب على مصراعيه لمزيد من الإصلاحات، وذلك ليس بغريب على عهد الملك عبدالله -حفظه الله- ففي زمنه كانت الخطوات الجبارة من أجل مستقبل الوطن.
تطرقت في مقال سابق بعنوان “في تشريع الفساد”، عن الخلل الفقهي في الموقف من المال العام، والذي لم تعد تعريفاته تناسب القرن الواحد والعشرين. وقد علمت من مصادر مسؤولة أنه يوجد قرارات وأنظمه تنظم المحافظة على المال العام، وتصحح الإرث الفقهي المتساهل مع سرقة بيت المال، وأن قانوناً جديداً في المحافظة على المال العام في طريقه للصدور، ويدخل ذلك في التوجه العام نحو مواجهة الأخطاء، ثم إصلاحها قبل أن تصبح ثقافة وأخلاقاً عاماً، وستكون المرحلة الحرجة أو عنق الزجاجة في الإعلان عن القضية الأولى في التلاعب بالمال العام.
أخيراً..، أثار تأسيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد عدداً لا حصر له من المقالات والأطروحات الإعلامية والفكرية، وقد كانت خطوة جديرة بالثقة، ولا مجال للتراجع عنها في ظل الأعمال التي تقوم بها في الوقت الحاضر، لكن الطريق نحو النزاهة يستدعي أن تكون هناك هيكلة جديدة لطريقة عملها، وأن تكون لها مرجعية مستقلة عن مرجعية الحكومة التنفيذية، وذلك لمنحها القوة الرقابية، وإبعادها عن سلطة المحسوبية التي تشكل في كثير من الأحيان المرجعية السلطوية الأكثر تأثيراً في المجتمع، ولن يحدث ذلك من دون نقلة أخرى في هذا الاتجاه الإصلاحي، تحد من تدخلات المحسوبية، وتدفع بالحراك في اتجاه العصرنة والتحديث.