أبو قتادة الأنصاري صحابي جليل من فقهائهم، قد غلبت كنيته على اسمه، حتى أنه قد اختلف في اسمه، فقيل الحارس بن ربْعيّ، وقيل النعمان، وقيل عمرو، كما اختلف أيضاً في شهوده بدراً: فقيل شهدها وقيل لم يشهدها. ولم يعدّه ابن اسحاق في البدريين، ولم يذكره ابن عقبة، إلا أن الشعبي قد روى أن علياً كبر عليه سبعاً..
.. وقال كان بدرياً لأن عليا رضي الله عنه يكبر على البدريين سبعاً أو ستاً، تمييزاً لهم، وهذا القول على اعتبار صحة وفاته بالكوفة عام: أربعين في خلافة علي، وهو ما قال به.
الحسن بن عثمان، ويرى ابن الأثير إنه توفي على أربع وخمسين بالمدينة (أسد الغابة 6-251) وبه قال البيهقي في السنن الكبرى (4-26)، شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أُحداً والحديبية، ومشاهد أخرى، وأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرّيتين، الأولى خضرة، وهي أرض محارب بنجد، في شعبان سنة ثمان من الهجرة، في خمسة عشر رجلا فغنموا مائتي بعير، وألفي شاة وسَبَوا سَبياً كثيراً، والثانية إلى بطن أضم بينها وبين المدينة ثلاثة برد، في أول شهر رمضان سنة ثمان من الهجرة، في ثمانية أنفُرْ، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بهذه السرية التمويه على المشركين، لئلا تصل الأخبار عن مقصده مكة (طبقات ابن سعد 2-132 -133)، كما ذكر ذلك ابن سعد في طبقاته.. وقد سُمي فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي غزوة ذات قِرْد، أبْلي بلاء حسنا، فقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير فرساننا أبو قتادة وقد أوضح عن تلك الغزوة، الواقدي، فقال بسنده: قال أبو قتادة إني لأغسل رأسي، قد غسلت أحد شقيه، إذْ سمعت فرسي جروة تصهل، وتبحث بمحافرها، فقلت: هذه حرب قد حضرت، فقمت ولم أغسل شق رأسي الآخر، فركبت وعلي بردة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصيح: الفزع الفزع.
قال: فأدرك المقداد، فسايرته ساعة، ثم تقدمه فرسي، وكان أجود من فرسه. وأخبرني المقداد، فقتل مسعدة محرزاً، يعني ابن فضلة، فقلت للمقداد: إما أن أموت، أو أقتل محرزاً، فضرب فرسه، ملحقه أبو قتادة فوقف له مسعدة.
فنزل أبو قتادة فقتله، وجذب فرسه معه قال: فلما مر الناس تلاحقوا ونظروا إلى بُردي فعرفوها، وقال: أبا قتادة قُتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، ولكنه قتيل أبي قتادة عليه بُردة، فخلوا بينه وبين سَلَبِه وفرسه، قال أبو قتادة: فلما أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم بارك له في شعره وبشره، أفلح وجهك، قتلت مَسْعدَة، قُلْتُ: نعم، قال: فما هذا الذي بوجهك؟
قلت: سهم رُميت به، قال: فادنُ مني.. فبصق عليه. فما ضرب على قطر ولا قاح، فمات أبو قتادة وهو ابن سبعين سنة، وكأنه ابن خمس عشرة سنة، قال: وأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فرس مسعدة وسلاحه (سير أعلام النبلاء 2-450).
ولهذا الموقف ومواقف أخرى، في يوم حنين وغيرها، استحق أبو قتادة وساما رفيع المستوى والمكانة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، إذ تأخر عن الراحلة فدعمته بيدي، حتى استيقظ، فقال: اللهم احفظ أبا قتادة، كما حفظني منذ الليلة، ما أرانا إلا شقفنا عليك.
أما عمر بن الخطاب فقد أدرك ما لأبي قتادة من مكانة، فبعثه فقتل ملك فارس بيده، وعليه منطقة قيمتها خمسة عشر ألفا فنفلها إياه عمر، وعلي بن أبي طالب استعمل أبا قتادة، على مكة ثم عزله بقلم ابن عباس، أما معاوية فإنه لما قدم المدينة، لقيه أبو قتادة، فقال: تلقاني الناس كلهم، غيركم، يا معشر الأنصار، فما منعكم، قالوا: لم يكن لنا دواب، قال: فأين النواضح؟ قال أبو قتادة عقرناها في بدر لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لنا: إنكم ستلقون بعدي أثرة، قال: أمرنا أن نصبر، قال: فاصبروا (سير أعلام النبلاء 2-452).
وقد روى عن رسول الله عدة أحاديث، وحدث عنه أنس بن مالك، وسعيد بن المسيب، وعطاء بن يسار وعلي بن رباح، وعبدالله بن رباح الأنصاري، وأبو سلمة وابنه عبدالله بن أبي قتادة ومولاه نافع وغيرهم، من كبار التابعين، وعن ورعه في الحديث، روي عن أسيد بن أبي أسيد عن أبيه، قال: قلت لأبي قتادة فمالك لا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يحدث عنه الناس؟
فقال: سمعت رسول الله يقول: من كذب علي فليشهد لجنبه مضجعاً من النار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، ويمسح بيده الأرض، ذكره السيوطي في الجامع الصغير، ونسبه لابن عدي (سير أعلام النبلاء 2-451).
وقد اعتبره الكتاني في معجمه، وابن قُدامه في المغني، وغيرهما من كتب الفقه، من فقهاء الصحابة حيث استندوا على آرائه، وقد أورد له ابن قدامة وحده أكثر من خمسين مسألة، تنبئ عن مكانته وسعة فقهه، رغم تورّعه عن الإكثار من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خوفاً من الوقوع في الإثم، خشية لله، وخوفاً من الوعيد الشديد، الذي قاله صلى الله عليه وسلم، لمن يحدث عنه كذباً وقد فقه سنة رسول الله جيداً، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يحابي في دينه.
بل يحرص على الصدق، وحسن الامتثال، فقد أورد الطبري في تفسيره: قصة كعب بن مالك رضي الله عنه، عندما تخلف عن رسول الله في غزوة تبوك، وما نزل عليه من البلوى، التي محص الله بها إيمانه، فتاب عليه سبحانه وعلى صاحبيه، وفي صِلة القصة بأبي قتادة، قال كعب: حتى إذا طال ذلك علي، من جفوة المسلمين، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحبّ الناس إلي، فسلمت عليه، فوالله ما ردّ علي السلام، فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك بالله، هل تعلم أني أحبّ الله ورسوله؟ فسكت. قال: فعدت فناشدته فسكت، فعدت وناشدته فقال: الله ورسوله أعلم.. ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار (تفسير الطبري 14-522).
وما ذلك إلا أن أبا قتادة رضي الله عنه، قدم طاعة الله ورسوله بنهيه عدم الحديث مع كعب وزميليه، حتى يأذن الله في أمرهم بما يشاء، على صلة القربى ولم يخالف المناشدة، لأنها من السؤال بالله، ففوض الأمر لله ولرسوله، لأنه لا يعلم ما قد يكون خامر قلب كعب، بعدما كان من أمره ما كان، وهذا من الورع وحسن الاستجابة رضي الله عنهم جميعاً.
وفي الوضوء بسور البهيمة، يرى أكثر الفقهاء أنه لا يتوضأ بسور كل بهيمة، لا يؤكل لحمها، إلا السنور وما دونها في الخلقة، والسور هو فضلة الشرب، وقد رجح ابن قدامة طهارة سور الهرّة، مستنداً على ما روي عن كبشة بنت كعب بن مالك، وكانت تحت أبي قتادة: أن أبا قتادة دخل عليها، فسكبت له وضوءً قالت: فجاءت هِرة فأصفى لها الإناء، حتى شربت. قالت كبشة: فرآني أنظر إليه، قال: أتعجبين يا ابنة أخي، فقالت: نعم فقال: إن رسول الله قال: “إنها ليست بنجس، إنها من الطوّافين عليكم والطوافات”، أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وهذا أحسن شيء في الباب، وهذا قال بلفظه على نفي الكراهة عن سور الهرّ وبتعليله على نفي الكراهية، عما دونها مما يطوف علينا (المغني 1 : 71).
وفي الآداب الشرعية، أن ما فيه أذى أو نظافة، تستعمل فيه اليسار دون اليمين، كالاستجمار والتمسح من الخلاء، قال ابن قدامه في المغني: ولا يستجمر بيمينه لقول سلمان في حديثه: “إنه لينهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه” رواه مسلم وجاء في الحديث الذي رواه أبو قتادة أن رسول الله قال: “لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه”. متفق عليه (المغني 1-211).
وفي الصيام يرى بعض الفقهاء أن من كانت عليه أيام من رمضان، فأخر قضاءها عمداً أو لعذر حتى جاء رمضان آخر، فإنه يصوم رمضان الذي ورد عليه، فإذا أفطر قضى الأيام التي عليه ولا مزيد ولا إطعام عليه في ذلك.
قال الكتاني في معجمه، وهذا هو قول أبي حنيفة، وداود وابن حزم، وقال مالك: يطعم مع القضاء، عن كل يوم من رمضان الأول، مُداً مُداً عددها مساكين، إن تعمّد ترك القضاء، فإن كان تمادى في مرضه، قضى ولا طعام عليه، وهو قول الشافعي، وبمثل هذا القول قال بعض الصحابة والتابعين، ورد عن ابن عمر عن طريق صحيح: أنه يصوم رمضان الآخر، ولا يقضي الأول بصيام، ولكن يطعم عنه، مكان كل يوم مسكينا، مُداً مُداً، وبه قال أبو قتادة: وعكرمة. (معجم فقه السلف 3-51).
وحيث قد اختلف في الأذان لمن فاتته صلوات، والأكثر على أنه يستحب له أن يؤذن للأولى، ثم يقيم لكل صلاة إقامة، مستدلين بحديث هيثم المتصل أن المشركين شغلوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق، حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالاً فأذن وأقام وصلى الظهر، ثم أمره فأقام فصلى العصر، ثم أمره فأقام فصلى المغرب، ثم أمره فأقام فصلى العشاء.
ويحدث أبو قتادة أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فناموا حتى طلعت الشمس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا بلال قم فأذن الناس بالصلاة. متفق عليه (المغني 2-75-77).
mshuwaier@hotmail.com