في أوج الحالة المتأزمة التي أججها (ولا أقول أوجدها!) الفيلم المسيء للرسول عليه الصلاة والسلام، تأتي «النرويج»، وبحسها الحضاري التقليدي المعروف لتعلن عن تعيين شابة مسلمة لم تبلغ بعد العشرين من العمر وزيرةً للثقافة..!!
هذهِ النرويج هي ذات النرويج التي خرج منها رجلٌ متعصب معتوه في العام الماضي يُدعى «أندريس بريفك» ليقتل حوالي سبعين شخصاً احتجاجاً على التعددية الثقافية وهجرة المسلمين إلى النرويج!
فعندما يتم تعيين الشابة المسلمة «هادية طاجيك» وزيرةً للثقافة في هذا البلد الذي اشتهر بتقديره العميق للثقافة فإن الدلالة الكبرى هي أنه مثلما يوجد متعصبون مثل «أندريس بريفك» فإن مساحة التسامح تظل أكبر بكثير من أن تُضَيَّق فتُختزل بوقوع جريمة أو عدة جرائم ذات دوافع دينية أو عِرْقية رغم الضجيج الهائل الذي يصاحب هذه الجرائم. هذه المساحة الكبيرة من التسامح هي التي تتيح لشابة مسلمة أن تكون وزيرة للثقافة في ذلك البلد الذي بدأت تطفو على سطحه في السنوات الأخيرة مظاهر من ثقافة الكراهية التي لم تكن موجودة سابقاً.
ولكي ندرك عمق الدلالة لتعيين مواطنة مسلمة وزيرةً للثقافة في النرويج علينا أن نتذكر حساسية هذه الوزارة في بلد يحمل تقاليد راسخة في مجال الثقافة بحيث ليس من الممكن تصوُّر الإقدام على المخاطرة بتسليم دفتها لمن قد لا يفهم تلك الحساسية فيرتكب أخطاء تحرج وتجرح هذه الثقافة ما لم تكن قدرات وكفاءة ذلك الشخص محل ثقة لدى من يضعه في ذلك المنصب. ولهذا، فإن المغزى - كما يبدو - هو أن النرويج تظل متمسكة بانفتاحها الثقافي إلى الحد الذي لا يمنعها من أن يكون على رأس وزارة الثقافة مواطنة مسلمة ابنة مهاجر باكستاني، طالما أنها تتمتع بالقدرة والكفاءة.
يحدث هذا في وقتٍ تستفحل فيه «الإسلاموفوبيا» التي كانت كامنة منذ زمن بعيد في الغرب ثم أججتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 واستغلها المناوئون للإسلام لتخويف العالم من المسلمين ومن الثقافة الإسلامية.
عندما نقرأ السيرة الذاتية لـ»هادية طاجيك» نجد أنفسنا أمام إنسانة متفوقة في دراستها وفي عملها وأنشطتها، وقد استطاعت هذه الشابة التي تبلغ الآن التاسعة والعشرين من العمر أن تصبح نائبة في البرلمان النرويجي في عام 2009، أي عندما كان عمرها 26 عاماً. وهذا يوضح لنا أن المجتمعات الغربية بالرغم من كل مظاهر التعصب ضد المسلمين والثقافة الإسلامية خصوصاً في السنوات الأخيرة يمكن أن تكافئ المتفوقين من كل الديانات والإثنيات، وأن التحدي الذي يواجه أبناء الجاليات الإسلامية هناك هو عدم التوقف أمام الشعور بالظلم بل العمل على مكافحته ليس بالعنف وإنما بالتفوق العلمي والمهني وتكوين التنظيمات واللوبيات القوية التي تجيد ممارسة اللعبة الديموقراطية وتستفيد من الفرص التي توفرها قواعد تلك الممارسة. وها نحن نرى ان هذه الدول غير المسلمة تتيح للمرأة المسلمة ما لا تتيحه لها بعض الدول الإسلامية نفسها..!!
ومعلوم أن «هادية طاجيك» ليست أول وزيرة أو برلمانية مسلمة في بلد أوروبي، فهناك العديد من الوزيرات المنحدرات من أصول إسلامية في بلدان أوروبية، ومنها فرنسا المعروفة بتشددها في موضوع الحجاب لكن ذلك لم يمنع الرئيس الحالي فرانسوا هولاند وسلفه ساركوزي من تعيين وزيرات مسلمات.
وخلاصة القول: إن تجارب الأقليات في الدول الغربية الديموقراطية تدلنا على أن بوسع تلك الأقليات أن تنال حقوقها وتصعد إلى الأعلى في السلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وفي كل مجال عندما تكون منظمة وتجيد استثمار الفرص التي تتيحها طبيعة أنظمة تلك البلدان، وكم نرجو أن يحدث هذا للأقليات المسلمة في الغرب؛ ولكنَّ هذا يحتاج إلى أن يكف متشددو البلدان الإسلامية في الأوطان الأم عن دس أنوفهم في شؤون تلك الجاليات، فنحن نضر أكثر مما ننفع.
alhumaidak@gmail.comص.ب 105727 - رمز بريدي 11656 - الرياض