عقب العدوان على العراق من قِبل الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين عام 2003م؛ بزعم البحث عن أسلحة الدمار الشامل، ومن ثم احتلاله تحت حجة فرض الحياة الديمقراطية وقيم الحرية والحقوق الإنسانية..
... في الواقع العراقي المنهك من استبداد صدام وطغيان البعث، ترددت في الأوساط الإعلامية الغربية فكرة مشروع تقسيم العالم العربي، بما عُرف اصطلاحاً لدى النخبة العربية المثقفة بـ(تقسيم المقُسَّم وتجزئة المُجزَّأ)، خاصة في ظل التصريحات الأمريكية، التي تحدثت عن مشروع الشرق الأوسط الكبير، وبشَّرت به وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك كونداليزا رايس.
ذلك المشروع لمعت فكرته الرئيسية ووُضعت خطوطه العامة من قِبل المفكر برنارد لويس في مطلع الثمانينيات الميلادية، وهو مستشرق يهودي ذو نزعة صهيونية، ومن مواليد بريطانيا عام 1916م، ويحمل الجنسية الأمريكية منذ العام 1982م، وقد عمل مستشاراً لوزارة الدفاع الأمريكية، ويُعتبر منظِّر سياسة التدخل الغربي والهيمنة الأمريكية، التي كانت لب مواقف وأعمال إدارة الرئيس جورج بوش الابن خلال فترة ولايته، تلك الفترة الساخنة التي شهدت اجتياح أفغانستان عام 2001م، وإضعاف باكستان، واحتلال العراق، ودعم الغطرسة الإسرائيلية لأقصى حد حتى فشلت عملية التسوية السلمية بشكل كامل. ويقوم مشروع لويس (الصهيوني) على إعادة رسم الحدود الجغرافية لاتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية عام 1916م، من خلال تقسيم البلدان العربية إلى دويلات صغيرة ومحدودة القدرة العسكرية، سواء بإذكاء الحروب الأهلية، كما حدث في السودان، أو الإقليمية كما وقع بين العراق وإيران في حرب الخليج الأولى، أو باستغلال أية ثورات شعبية أو انقلابات عسكرية، وتوجيه الدعم الخفي لها؛ حيث تكون المحصلة النهائية هي المحافظة على التفوُّق النوعي والحجم الجغرافي لإسرائيل بين جميع الأقطار العربية؛ ما يضمن استمرار المصالح القومية الأمريكية العليا في المنطقة.
الظروف العراقية منذ سقوط نظام صدام حتى قيام الحكومات الطائفية خلال السنوات العشر الأخيرة كانت تُعَدّ فرصة ذهبية مواتية لانتقال مشروع برنارد لويس من طور الأفكار والخطط حول طاولة الاجتماع إلى طور العمل والمتابعة على أرض الواقع؛ حيث تكون البداية مع العراق بتقسيمه إلى ثلاث دول: (دولة شيعية في جنوب وشرق العراق، ودولة سُنيّة في وسطه، ودولة كردية في شماله)، إلا أن الخلاف على كركوك الغنية بالنفط، وسيطرة الإيرانيين على حكومة بغداد المركزية، وموقف تركيا الرافض تماماً لقيام دولة كردية في العراق؛ لأن ذلك سيؤدي إلى دولة مماثلة في تركيا أو على الأقل المطالبة بمناطق كردية داخل الأراضي التركية، وهذا ما جاء في مخطط المشروع أصلاً، فضلاً عن موقف دول مجلس التعاون ضد أي تقسيم، كل ذلك حال دون تنفيذ هذا المشروع (حالياً)، ولكن هذا لا يضمن عدم حدوثه مستقبلاً؛ بسبب استمرار الظروف السلبية في العراق؛ ما يعني بقاء الأجواء المهيأة لذلك، خاصة إذا عرفنا أن مجلس الشيوخ الأمريكي قد صوَّت عام 2007م على قرار انسحاب الجيش الأمريكي من العراق، وربط ذلك بمسألة تقسيمه.
اليوم يتكرر الحديث ذاته، وتحديداً بعد نجاح الغرب بحكوماته وهيئاته ومجلس كنائسه العالمي في فصل جنوب السودان عن شماله كدولة مستقلة وذات سيادة، والعمل على دفع إقليم دارفور (غرب السودان) للمسار الانفصالي ذاته، وكذلك بعد اندلاع الثورات الشعبية التي أسقطت الأنظمة الديكتاتورية من حلفاء الغرب، فيُشير المشروع إلى تقسيم مصر إلى أربع دول، وليبيا إلى ثلاث، وسوريا إلى ثلاث، وغيرها من دول الربيع العربي. كما أن الدول العربية، التي لم تشهد ثورات شعبية أو حروباً أهلية، لم يستبعدها مخطط هذا المشروع الصهيوني. أما فلسطين فهي ضمن إسرائيل الكبرى؛ لذا ينبغي ألا نستغرب من الحديث الدائر حالياً حول تقسيم سوريا، التي تشهد ثورة شعبية مجيدة منذ مارس 2011م، وموقف الغرب السلبي تجاه هذه الثورة مقارنة بمواقفه من الثورات الأخرى، وبخاصة الليبية؛ حيث يُشير المشروع إلى إيجاد دولة (سنية) ولها الجزء الأكبر من الأرض السورية، تشمل منطقتَيْ دمشق وحلب وما يقع في إطارهما، ودولة (نصيرية) تكون بمحاذاة الساحل السوري ومركزها اللاذقية، وهذا يفسر محاولات تهجير المواطنين السنة من تلك المواطن، وكثرة وتكرار المذابح هناك، ومحاولة تعزيز نسبة التركيبة السكنية لصالح النصيرية (العلويين) بحكم وجود قراهم في تلك المناطق. إضافة إلى دولة ثالثة (درزية) تكون في جنوب سوريا، تضم الجولان مع أجزاء من لبنان.
قد يرفض البعض كل هذه المعلومات باعتبارها هواجس غير مبررة من منطلق رفضه التام لـ(نظرية المؤامرة)، لكن هذا لا يمنع من القلق والحذر من تحوُّل هذه الهواجس إلى حقائق؛ فالغرب لم يعد يحيك المؤامرات كما في السابق، إنما أصبحت الأمور بالنسبة له تُدار من خلال المؤتمرات الدولية برعاية هيئة الأمم المتحدة، التي تحوَّل أمينها إلى (عضو منتدب) في مكاتب وزراء خارجية الحكومات الغربية، ويكفي أن نتذكر أن الغرب عندما عقد مؤتمر مدريد عام 1991م كان كثير من الساسة العرب وقادة الرأي والمثقفين يعتبرون التفكير بغزو أمريكا للعراق مجرد أضغاث أحلام، لكنها صارت كوابيس عام 2003م بسقوط بغداد الرشيد.
والمشكلة الكبرى أن ليل أمتي طويل.
moh.alkanaan555@gmail.comتويتر @moh_alkanaan