كتب أفلاطون «يوتوبيا» راسماً مواصفات ومتطلبات المدينة الفاضلة..
تبقى حقيقة مثبتة تاريخياً أن كل مشروع ناجح بما في ذلك تأسيس الدول، بل والأمم الممتدة ابتدأ بحلم.. ولكن تحقق المشروع، ودوامه يتطلب أكثر من الحلم. يتطلب الرؤية الواضحة والعمل الجاد المخلص والمرونة في التعامل مع مستجدات الأوضاع.
وهذا واضح من دراسة تاريخ الحضارات والدول.
قيام دولة من مكونات مجتمعية وسياسية واقتصادية متعددة هو حلم شاهق يحققه مؤسس قدير.. أما قيادة الدولة بحكمة وتوجه مستقبلي بناء فهو المطلوب لكي يتحقق الحلم في مشروع مستدام. وديمومته متعلقة بشعور القائد أنه مسؤول, وشعور المجموع أن المشروع الوطني مشروعه بقدر ما هو مشروع الحاكم. يحدث هذا حين مميزات الانتماء ومصالحه يتمتع بها الجميع ولا تخضع للضغوط الفردية أو الأنانية الفئوية النخبوية والاقصائية.. مثل هذا الحاكم لا يتحقق إلا نادراً.. وبالتالي قلما يشعر المجموع أن المشروع مشروعه ويساهم في إنجاحه وديمومته.
الحاكم المتميز له رؤية متضحة؛ وليس أي رؤية، بل رؤية تتعلق بموقعه كمسؤول أمام الله يتحمل مسؤولية الولاية ويدرك أنها تتعلق براحة من هو مسؤول عنهم وليس بالضرورة راحته هو شخصياً.. أي هي إطار توجه ثابت لحمل المجموع نحو الأفضل, يحتوي تفاصيل متجددة مرنة يظل بها الواقع مزدهراً لا تعاني غصونه الذبول لامتصاص الطفيليات لنسغ حياتها ولا أزهاره التعفن، ولا روافده النضوب, ولا أرضه التحجر.
وإذا كان الإطار الرسمي يتكون من رغبة وقناعة وإصرار الحاكم وصانع القرار على سعادة المجموع العام، فإن المحتوى الحي المرن داخل الإطار يتكون من ممارسات وتصرفات وقناعات الناس في ذلك المجتمع للوصول إلى تحقق الرؤية على أرض الواقع.
والإطار الرسمي في الحالات المثالية يأتي مكتملاً بمكوناته من أنظمة وإجراءات وإستراتيجيات لتحقيق الواقع الأفضل للمجموع وليس لأقلية تعلو غيرها في الأولوية. وقلما يأتي المحتوى الحي مثالياً في ممارساته إن لم يكن الإطار الرسمي فعالاً في تحديد الوجهة والالتزام بها مطبقا على الجميع لا يخضع للضغوط الفردية أو الأنانية الفئوية النخبوية والاقصائية.
دور المجتمع الواعي أن يشارك في تكوين الرؤية بإصراره على المشاركة في توضيح التفاصيل المطلوبة ثم التزامه بممارسة تفصيلاتها يومياً في كل موقع ليحققها فعلا على أرض الواقع.
وكل بيعة كما نعرفها -أو انتخابات كما تعرفها مجتمعات أخرى- هي عقد شراكة بين القائد والمجتمع لتحقيق مشروع بناء مشترك يدعى الطرف الأول فيه ولي أمر والطرف الثاني مواطناً في مشروع بناء وطن وصيانته وبقائه أرضاً وسقفاً حامياً للجميع.
وفي كل مكان وزمان ومجتمع.. الحلم هو رؤية للمستقبل يمكن أن تكون واقعية قابلة للتحقق فتتحقق. وممكن أن تكون غبر واقعية فتنتهي بيقظة موجعة. ولكن تبقى الحقيقة الأهم: أن من لا يستطيع أن يحلم لا يستطيع أن يحقق رغباته بنفسه وأن من يحلم بأنانية يحرق حلمه الآخرون. ثم تأتي حقيقة أهم: أن من لا يحدد إستراتيجية متضحة التفاصيل لا يستطيع أن يحدد بوصلة فاعلة ووجهة مستقبلية لتحقيق رغباته, ويظل قانعاً بالشكوى من نقصان حاضره, أو متشبثا بأمجاد ماضيه. هناك طبعاً تحديات وعقبات وصعوبات في أي خطوة تتطلب تغيير إطار المعتاد, ولكن التغيير إلى الأفضل يستحق أن نحلم ونضع له إستراتيجية وتفاصيل ومتابعة.
ولكن الحلم لا يتحقق لمجرد أن الفرد يحلم.. ذلك يدل فقط على أن الفرد غير راض عن أوضاعه الراهنة. وقد يدل أيضاً أنه يعرف بعض تفاصيل ما يرغب فيه كأن يصبح غنياً أو ثرياً أو عالماً أو في مركز ذي أهمية أو موقع صنع قرار. الأهم فعلاً هو أن يعرف كيف يصل من الحاضر الذي يود تغييره إلى المستقبل كما يحلم به. ولابد لذلك من جدية التعامل والتركيز على الخطوات المدروسة الوجهة. فليس كل من سار على درب وصل إلى وجهته. المطلوب أن يكون الدرب في الوجهة الصحيحة وأن السائر فيه يعرف الاتجاه الصحيح الذي يؤدي إلى هدفه.