|
تُؤكِّد مقوِّمات النهضة وبناء الدول في مختلف النماذج العالميَّة، أن وحدتها الوطنيَّة، من أهم ثوابتها الأساسيَّة، التي لا يمكن تحقيق أيِّ بناء أو تنميَّة أو بناء عليها بدونها؛ ويكتسب مفهوم الوحدة الوطنيَّة أهميته المركزيَّة من علاقته بعمليات عدة، مثل: بناء الدَّوْلة الحديثة، والإصلاح والتطور. وهي العمليات التي تتخذها الدول التي تسعى إلى النهضة والتقدم، بوصفها بُنيَّة أساسيَّة لكلا العمليتين في آن واحد.
وتقتضي عمليَّة بناء الدَّوْلة الحديثة، تضافر الجهود الوطنيَّة، وتفاعل النخب الفاعلة والشعبية مع خطط وبرامج الدَّوْلة العليا وإستراتيجياتها؛ لتحقيق الاستقرار والأمن في المجتمع، وترجمة أسس المواطنة في هيئة سلوكيات تعبِّر عن الانتماء الوطني والمساواة بين المواطنين دونما تفرقة على أساس مناطقي، أو مذهبي أو عرقي، أو حتَّى اللون في الحقِّوق والواجبات. كما يقتضي بناء أسس للمواطنة الاجتماعيَّة، لتتحقق المشاركة على نطاق واسع؛ فيسهم جميع أبناء الوطن، في البناء الوطني، في بيئة صحيَّة من التعاون والانسجام.
لقد قامت المملكة العربيَّة السعوديَّة على إرث إسلامي عظيم، بناه الرَّسُول (صلَّى الله عليه وسلّم)، ثم طبَّق مبادئه الخلفاء الراشدون من بعده، ثمَّ زعماء الأمة الإسلاميَّة حتَّى العصر الحديث.
ومن الثوابت الراسخة، الأصيلة في بناء المملكة أيضًا، وحدتها الوطنيَّة التي دشنّها الملك عبد العزيز وكانت البدايَّة من الرياض عام 1319هـ، ثمَّ توحيدها تحت لواء التوحيد منذ أكثر من اثنين وثمانين عامًا بانطلاق أول وحدة تتم على رمال الجزيرة العربيَّة منذ أكثر من ألف عام، حيث ترسَّخ الاستقرار، والأمن، وانبساط النعمة. وقد استلهمت هذه التجربة الوحدويَّة الوطنيَّة في ظلِّ هذه الثنائيَّة المتناغمة الثوابت الشرعيَّة والوحدة الوطنيَّة أبعادًا قيميَّة أكثر، إذ تُعدُّ هذه الثوابت المكوّن الأساس لنشأتها؛ وركيزة مهمة من ركائز مقوِّماتها ومسلَّمة من مسلَّمات تطوره وتقدمه ودليلاً قاطعًا على تلاحم هذا الشعب مع قيادته؛ إذ تحكي لنا قصة التلاحم بين أبناء هذا المجتمع من تاريخ آبائنا وأجدادنا حتَّى يومنا هذا.
ففي الثوابت الشرعيَّة، لم يكن انتماء المملكة للإسلام والولاء له محض رؤيَّة فكريَّة أو منهجيَّة، أو مُجرَّد شعار يرفع في مرحلة من مراحلها وتطورها لتوظيفها للوصول إلى قلوب المسلمين أو عقولهم؛ إنما شكّل الإسلام للسعوديين، الفطرة التي يعبّرون عنها بعفويَّة، والهواء الذي يتنفسونه، حيث تضم بلادنا مهبط الوحي، مكة المكرمة والبيت الحرام، الذي تهفو إليه قلوب المسلمين في أنحاء العالم كلّّه، ويقصده الحجيج من جميع فجاج الأرض، وتحتضن المسجد النبوي الشريف، مهاجر رسول الله (صلَّى الله عليه وسلّم).
وعلى مدار السنين، كان لأولئك الحجاج، والعلماء وشيوخ المذاهب الإسلاميَّة، الأثر كبير، والدور المباشر في تشكيل المزاج والهويَّة السعوديَّة التي اتسمت بالوسطيَّة، والاعتدال، والتسامح؛ التي يجب أن تتسع القلوب والصدور لِكُلِّ حامل لرسالة الإسلام، المبنيَّة على الوسطيَّة والاعتدال والتسامح.
وعملت قيمة الوحدة الوطنيَّة على إبراز قيمة الانتماء الوطني وجعلها هدفًا أعلى، يعمل الجميع على تحقيقه والمحافظة عليه، فاللحمة التي نسجها موحد المملكة الملك عبد العزيز، -رحمه الله-، لهذا الوطن أسهمت في وصول وطننا توحيد ووحدة، نعتز ونفتخر بها. هذه الوحدة الوطنيَّة، التي أساسها وحدة قلوب قبل أن تكون وحدة جغرافيا أو وحدة اقتصاديَّة أو أي شكل آخر التي قامت بعد طول شتات حتَّى توحدت بهذا الامتداد إلى مملكة ذات مكانة مرموقة، وهبها العاطي، جلّ وعلا، خيرًا كثيرًا.
ويشكِّل ذكرى توحيد المملكة الذي نحتفي به اليوم مرحلة فاصلة في تطوّر المملكة العربيَّة السعوديَّة التي أسسها الملك عبد العزيز -طيَّب الله ثراه- ورجاله المخلصون وأرسى قواعدها، على مبادئ الشريعة الإسلاميَّة، والوحدة الوطنيَّة، حرص فيها -رحمه الله- على أهميَّة أن تكون البلاد موحدة قويَّة. وخطت المملكة منذ ذلك اليوم خطوات تنمويَّة متنوّعة على جميع الأصعدة السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والحضارية؛ ما أهلها لأن تتبوأ مكانتها المأمولة. ويأتي احتفاؤنا بهذه الذكرى سنويًا، وفاءً لأولئك الرِّجال الذين أسهموا في نهضتها، وتعبيرًا عن الفخر ببلادنا وقيادتنا ووطننا ووحدتنا ويصنع منَّا: قيادة وشعبًا نسيجًا واحدًا في وطن العزة والإباء؛ ورصدًا لما تحقق من إنجازات؛ وسعيًا إلى تحقيق المزيد من المكاسب التنمويَّة الأخرى، التي تمنح المجتمع السعودي حياةً تليق به، في ظلِّ الظروف الدوليَّة المحيطة به.
وقد تواصلت مسيرة البناء والنماء في المملكة منذ عهد الملك المؤسّس -طيَّب الله ثراه- مرورًا بعهد أبنائه البررة: الملك سعود بن عبد العزيز والملك فيصل بن عبد العزيز والملك خالد بن عبد العزيز؛ والملك فهد -رحمهم الله رحمة واسعة وأسكنهم فسيح جنَّاته- وكانت عهودهم انطلاقات تنمويَّة كبرى؛ فكل ملك قاد هذه البلاد، بنى على إنجازات مَنْ سبقه، لذا تواصلت التنميَّة واستمرت، فيها القيم المضافة، وصولاً حتَّى هذا العهد الزاهر عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، -حفظه الله- الذي تستمر فيه مسيرة الخير والنماء والعطاء وتواصل انطلاقتها بِكلِّ ثقة راميَّة إلى تحقيق النهضة الوطنيَّة الشاملة تنمويًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا وعلميًّا وصحيًّا.
ودشن خادم الحرمين حزمة من المنجزات التطويريَّة والتحدِّيثيَّة، التي شكَّلت في مجملها أساسًا لمرحلة جديدة تقوم على المصارحة، والمكاشفة، والإعلاء من قيم الوطن المثلى، في الوحدة والبناء والسعي للتطوير مع التمسُّك بالثوابت الشرعيَّة والوطنيَّة.
وفي مسيرة التنميَّة، التي كنا نسابق فيها الزمن، رعته بالتطوير والتحدِّيث، للاستثمار في الإِنسان، وتنميته ليحمل مشعل التنميَّة، نال المجتمع، صدمة حضاريَّة، ربَّما أحدثت تطورات حادة، كان من أهم مظاهرها السلبيَّة، أزمة الثِّقة بالتراث العربي الإسلامي؛ والوعي بالأزمة الحضاريَّة، وإشكاليَّة البحث عن الهويَّة، فضلاً عن إحباطات اللقاء الحضاري ربَّما شعر بها البعض خاصة الشباب، بصفة خاصة؛ فضلاً عن الانفتاح الإعلامي والاتِّصالي الرهيب المتمثِّلة بشبكة الإنترنت والقنوات الفضائيَّة التي تروج للعولمة الثقافيَّة، وتدعو إلى أنماط جديدة للحياة، بالإضافة إلى الترويج لثقافة الاستهلاك بعيدًا عن القيم الساميَّة والمثل العليا، وما أفرز ذلك من دعوات متطرفة وأخرى متحللة تدعو إلى إهمال الجوانب الروحيَّة وتهميشها.
برز الحوار الوطني كمشروع فكري تنموي، وضرورة من ضرورات هذا العصر بِكلِّ تقنياته وآلياته؛ لقراءة التحدِّيات، وتحديد طبيعتها ونوعها وتشخيصها وكيفيَّة التَّعامل معها؛ ومواجهة التحدِّيات بمنهجيَّة وموضوعيَّة، بتزامن مدروس وبعمل يُؤدِّي إلى بناء الحاضر، والانتقال إلى المستقبل بأمان وتنميَّة.
وجسَّد الحوار لدى خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز -حفظه الله- بعدًا أساسيًّا من أبعاد شخصيته وقيادته وتجلَّى هذا في تأسيسه ودعمه للحوار الداخلي من خلال إنشاء مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، وتعزِّز ذلك فيما بعد باستلهام التجربة الحواريَّة الوطنيَّة، التي تحمينا من الاختلاف المذموم، والتشرذم، فتهذِّبه، وتجعله اختلافًا محمودًا، وتجعل ثقافة الحوار طبعًا من طباع المجتمع، ويصبح جميع فئات المجتمع، قادرين على إدارة الاختلاف بما يجعل اختلافنا وتنوّعنا، مصدر ثراء لا شقاء؛ وآليَّة مهمة للتفاعل الحضاري الخلاق، التي تتيح للشعوب «التعارف» وتبادل الخبرات والتجارب والمعارف بين بعضها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} الحجرات 13.
ومن تجربتنا الماضيَّة على مدار عقد من الزمان، فرضت ثقافة الحوار الوطني خيار الحوار العقلاني، كوسيلة حضاريَّة لإدارة الاختلاف بين التوجُّهات والأطياف المجتمعيَّة دونما إقصاء أو تخوين وتكفير لأحد، وتفعيل الحوار الخارجي لإزالة سوء الفهم والظّن، وتصحيح الصورة النَّمطيَّة التي كوَّنها كل طرف من طرفي الحوار عن الآخر، لتجنب حالة الصدام والمواجهة؛ فضلاً عن أن قضيَّة الاختلاف، مؤصَّلة شرعيًا، وتعد سُنَّة كونيَّة حباها بني الإِنسان، لتعطي لحياتهم ألوانا متنوّعة ومختلفة من التفكير والسلوك وجعلت التباين بين النَّاس في رؤاهم ونظرتهم للأشياء هو الأصل بعد أن كانوا أمة واحدة (ومَا كَانَ النَّاس إلا أُمّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) بالإضافة إلى أن الاختلاف، والتنوّع، والتضاد يثري الأفكار ويولّد الإبداع عندما ينمو في بيئة متسامحة، ينشأ أفرادها على مبدأ تقبُّل الآخر، وتكريس الإيمان بفكرة: الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية»؛ و»قولك خطأ يحتمل الصَّوَاب وقولي صواب يحتمل الخطأ»؛ وغيرها مما يشكِّل أركانًا أساسيَّة لقاعدة الحوار، حيث يعطي الحوار للتنوّع والاختلاف بعدًا إِنسانيًا، يضعه في إطاره الطّبيعي ولا يسمح له بالتحوَّل إلى طاقة سلبيَّة، مدمرة، بل النهوض بدور فعَّال في التقليل من مستوى سلبيات الاختلاف، جنبًا إلى جنب مع الرفع من مستوى إيجابياته؛ ليكون الاختلاف في هذا الإطار رحمةً وخيرًا وفيرًا، ودافعًا للإصلاح والتطوير والتحدِّيث.
تحيَّة تقدير وشكر وعرفان في يومنا الوطني إلى مليكنا قائد مسيرة الحوار خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، على جهوده المبذولة في سبيل تعميق التضامن الوطني والعربي والإسلامي والعالمي بشتَّى الوسائل، وفي طليعتها الحوار.. منهج الحكماء وأسلوب العقلاء للتَغلَّب على أسباب الفرقة، والاختلاف، والسمو إلى مستوى المواجهة الحكيمة للتحدِّيات التي تواجه الأمة في هذه المرحلة الراهنة. والدُّعاء بأن يحفظ الله بلادنا من كل مكروه وأن يديم لنا عزها في ظلِّ الرِّعاية الكريمة لخادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين، ويظل يومنا الوطني، نعم المذكِّر بما قبله من أيام جهد وكفاح؛ ليحمل لنا أيضًا أملاً في رخاء وفير وتنميَّة مستدامة ومتجددة.
- مستشار خادم الحرمين الشريفين، الأمين العام لمركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني