ذكرت الأسبوع الماضي أن من أهم أسباب شعور قطاع واسع من أبناء وطننا أنهم غير مستفيدين من الطفرة الحالية، بل حتى في بعض الأحيان يرون أنهم متضررون منها، هو ضيق فرص العمل المتاحة للعمالة المواطنة بسبب تضخم القطاع الحكومي وعجزه عن استيعاب معظم الداخلين لسوق العمل وفي ظل عدم نجاح سياسات توطين الوظائف في القطاع الخاص في تحقيق أهدافها، الأمر الذي نتج عنه انخفاض خطير في مشاركة العمالة المواطنة في سوق العمل مع كل ما ترتب على ذلك من ارتفاع في معدلات الإعالة وتدن في مستويات المعيشة.
عامل آخر لعب دوراً مهماً في الحد من استفادة شريحة واسعة من أفراد المجتمع من هذه الطفرة هو مشكلة الإسكان المتفاقمة. ففي الطفرة الأولى لم تكن مدننا الرئيسة بعد حوصرت بالملكيات الخاصة التي تخنقها وتتسبب في شح الأراضي، لذا فقد كانت أسعارها متدنية بشكل جعلها في متناول معظم أفراد المجتمع، أيضاً فإن منح الأراضي الحكومية للمواطنين كانت وفيرة وتشكل مصدراً مهماً لتوفير أراض في مواقع مناسبة، ودُعم كل ذلك بكون الحصول على قرض من صندوق التنمية العقارية ميسر دون انتظار يذكر وقيمته متناسبة مع تكلفة البناء في تلك الفترة.
أما في هذه الطفرة فالأمر مختلف، فملكيات الأراضي الخاصة الواسعة تحاصر المدن الرئيسية وتستقطع جزء كبيراً منها، نتج عنه شح في الأراضي المعروضة ارتفعت معه أسعارها ارتفاعاً هائلاً جعل قيمها خارج نطاق قدرة معظم أفراد المجتمع، وحتى من يملك أرضاً فإن قوائم الانتظار لدى صندوق التنمية العقارية تعني مرور عشرات السنين قبل الحصول على قرض قيمته لا تشكل إلا جزءاً يسيراً من تكلفة البناء. وفي ظل الطفرة الاقتصادية والنمو الكبير في عدد السكان، الطبيعي أو الناتج عن التدفق الكبير للعمالة الأجنبية، فقد زاد الطلب على الوحدات السكنية بشكل متسارع ارتفعت معه إيجاراتها بحدة بحيث أصبحت هذه الإيجارات تستقطع جزءاً كبيراً من الدخل العائلي لمن لا يملكون منازل، وهم يشكلون نسبة كبيرة من مواطني المملكة. ما أسهم في زيادة معاناة كل من لا يملك منزلا، وولد إحساس لديه بأن هذه الطفرة لم تحمل له ما كان يفترض أن تحمل من تحسن في مستويات المعيشة وارتفاع في الدخل الحقيقي.
كل ذلك يعني أن حل مشكلة الإسكان لا تقل أهمية عن حل مشكلة التوظيف ويؤكد أنها مصدر رئيس من مصادر المعانة التي تعيشها شريحة واسعة من أفراد المجتمع، وأنها معضلة معقدة بحاجة إلى حلول غير تقليدية تنهي مشكلة شح الأراضي بما يضمن تراجع أسعارها إلى قيم معقولة تتناسب مع متوسطات دخول المواطنين. وكما أشرت في مقال سابق، فإن سنغافورة وأمام مشكلة مماثلة لم تتردد في تطبيق حلول غير تقليدية أنهت بها مشكلتها تماما، بحيث أصبحت ملكية المنازل في سنغافورة تزيد عن 92%، وهذه هي النسبة الأعلى لملكية المنازل في العالم. فأمام شح الأراضي المتاحة لإنشاء المجمعات السكنية أجبرت الدولة ملاك الأراضي غير المستغلة بكفاءة على بيعها للدولة بسعر يعادل 20% من قيمتها السوقية فقط، وأقيمت عليها مجمعات سكنية كانت من الضخامة بحيث إنها الآن توفر سكناً لما يزيد على 82% من مواطني سنغافورة وبذلك حلت مشكلتها الإسكانية تماما.
ونحن في المملكة ما لم نجعل اكتناز الأراضي غير المستغلة بكفاءة داخل النطاق العمراني للمدن مكلف جدا لملاكها فيجبرون على التخلص منها ببيعها، سواء كان ذلك من خلال جباية قسرية لزكاتها أو من خلال فرض رسوم سنوية عليها، فلن ننجح في حل مشكلة الإسكان المتفاقمة وستظل مشكلة غلاء الأراضي عائقاً يحرم معظم المواطنين من امتلاك منزل، يستمر معه إحساس شريحة واسعة في المجتمع بكونهم غير شركاء في الاستفادة مما تنعم به بلادنا من طفرة اقتصادية غير مسبوقة لا في طولها ولا في قوتها.
alsultan11@gmail.comأكاديمي وكاتب اقتصادي *** on twitter @alsultanam