ما من شيء أكثر فشلاً ودموية من التاريخ الانتقائي، الذي هو استئصالي إقصائي تكوينًا. يعود النَّاس به القهقرى دائمًا، بأرواح هائمة مُتعدِّدة، بعده يركنون لعاداتهم، مُستسلمين لمتاع الغرور.
التاريخ ينبغي أن يبدأه الواقع ويستكمله الفكر، لكن الفكر الانتقائي، عادة، يجرف الواقع، ويهيل عليه التراب.
المؤرخون، أسياد الذاكرة، يتعاملون مع الواقع والأحداث، على قدر الطاقة، وبحسب الميول.
كلّ عناوين المُكرّسات التاريخية باتت غلافًا لمضامين مختلفة ومتناقضة. كأن التاريخ “سلطة” في الثلاجة، يُحركها الطبّاخون بحكم الضرورة.
حين يُقال، على سبيل المثال، أمام حدث مهمّ وضخم: “ها إننا نعيش التاريخ وهو يُصنع”. لا يُقال ذلك إلا من قبيل المبالغة البحتة وإثارة الانتباه، وتحميل القول ما لا يحتمل. ولا مرة “صُنع” التاريخ أمام أحد. صناعته جذورها وراءنا، تُستخدم فروعها أمامنا وعلى أنقاضنا. تستعاد فروعها وجذورها أو تُخترع أو تُزور. التاريخ بالنسبة إلى الحاضر هو دائمًا ذريعة. الأوروبيون يُهاجمون الطائفية والحروب الدينيَّة والعنصريَّة ويتبرأون منها جميعًا، وينفونها عن أنفسهم، لكن تاريخهم الحقيقي أسوأ من الطائفية والحروب الدينيَّة والعنصريَّة، على صعيد الاستعمال الغرائزي لاقتتال الشعوب أو قتلها، ولكن بذرائع تاريخيَّة. استعادة الأمجاد ذريعة تاريخيَّة. المدى الحيوي ذريعة تاريخيَّة. السلم والأمن الدوليان ذريعة تاريخيَّة. المصالح الدوليَّة المشتركة ذريعة تاريخيَّة. أرض الميعاد ذريعة تاريخيَّة. “وعد بلفور” ذريعة تاريخيَّة. الهولوكوست ذريعة تاريخيَّة. التفوّق العرقي ذريعة تاريخيَّة. الاستعمار الثقافي ذريعة تاريخيَّة. الاستعمار الاقتصادي ذريعة تاريخيَّة. التمثِّل بالغزاة “التاريخيين” ذريعة تاريخيَّة. بطن التاريخ السياسي والعسكري لشعوب العالم لم يحبل إلا بالذرائع ومحطاته مجبولة بالدم والهياكل العظمية، وحقائقه معظمها أكاذيب ومؤرخوها شهود زور، حتَّى وإن صدقوا.
لم تعترف، حتَّى في سرّها ونجواها، أنظمة “المُمانعة” و”المُقاومة”، بأنها تخدم إسرائيل، التي تُفضّل، بل تعشق وتُساند المسعورين والموتورين من “أعدائها!” لأنَّهم يُعززون صورتها كضحية.
مع ذلك، فإنَّ هذه الأنظمة لا تنفكّ عن الصراخ الهستيري اليومي بأنها “تصنع!” التاريخ ولقرون آتية، رغم يقينها أن مُجرَّد وجودها هو ذريعة تاريخيَّة لبقاء إسرائيل.
Zuhdi.alfateh@gmail.com