(أبو دحيّم) كرمز لاسم غير معروف قد تقاعدَ مؤخراً، وكان يمنّي نفسه بحياة ريفية بعيداً عن صخب المدينة وزحامها المروري الذي يستنفد جلّ وقته، لا سيما أنه هادئ الطبع لا يُمارس قيادة السيارة بالأسلوب الهجومي القتالي، كما يفعل بعض الفتيان الذين يرون أن القيادة الاحترافية باقتحام الزحام والنفاذ منه بأسرع وقت دون اعتبار لحسن السلوك وآداب الطريق، أبو دحيّم توجه لأرياف منطقته للبحث عن أرض لإعدادها كاستراحة، وفي تلك الليلة، ومن خلال بحثه المحبب في فضاءات الإنترنت لفتت انتباهه مناظر خلاَّبة لمزارع في دول خضراء، وأن أسعارها أقل من قيمة أرض الاستراحة في قريته، دخل الموقع فوراً وتصفّحه وتفحّصه وانتهى الأمر بتوجهه إلى هناك، وها هو الآن يعرض على (النت) صوراً بديعة لمزرعته الصغيرة ومنزله الريفي الجميل، بين شدو البلابل وشقشقات العصافير وندى الطلّ وزخات المطر أحياناً، وبدأ أكثر من (أبو دحيّم) متقاعدين بنشْر صورهم في مزارعهم بتلك الديار، حينما شاهدوا صور المتقاعد الجديد مفصحين بذلك أنهم سبقوه إلى الفكرة حينما لم يستطيعوا أن يلتئموا في أرياف بلادهم بسبب غلاء أسعار الأراضي الفاحش.
أبو دحيّم صاحبنا روى موقفاً ومصادفة عجيبة، إذ إن قرار تقاعده صدر صباحاً، وفي منتصف الليلة التالية ورد إلى بريده الإلكتروني دعاية تجارية لمُنشط جنسي من شركة أوروبية، وكأنهم قد علموا أحواله وعدد سنين عمره، وأطلع أصحابه عليها، سألوه: ماذا صنعت؟ قال: راسلت الشركة إن كان لديها علاج للروماتيزم لي، ولداء المفاصل وخشونة الركبة لأم دحيّم! وأضاف: إن مما زاده حماساً للحياة الريفية أنه ومع شدة ضيقه من زحام المدينة قد سمع أن طلاباً في الجامعة قد أنجزوا دراسة تفيد أن أعداد السيارات في المدينة التي (كان) يعيش فيها قد تضاعفَ خلال سنوات، وأنه مُرشح للزيادة وأن المدينة ذاتها ستشهد أزمة مرورية خانقة غير مسبوقة خلال الفترة المقبلة، لا سيما في ظل انعدام وسائل وبدائل تخفف العبء عن الطرقات الحالية، إذ لا يُمكن في العصر الحديث الاعتماد على السيارات دون وسائط النقل الأكثر مرونة واستيعاباً.
هو قال إنه سمع عن الدراسة في المجالس ليس إلا، الأمر الذي يُؤكد أنه قد بلغَ حد الضجر المروري، فبمجرد سماعِه عن الدراسة قفز وعلى الهواء مباشرة إلى هناك، ولأن لحديث المجالس نكهة وإن لم يقترن بالأدلة فقد روى متحدثٌ آخر أن متقاعداً من فئة أبو دحيّم في بداية سفرياته بعد التقاعد تزوج من امرأة مسلمة من شرق آسيا، وأقام هناك وترك (أم دحيّم) تُراجع المركز الصحي بمفردها لعلاج هشاشة العظام. قلت: إن التقاعد لا يعني التشاؤم، كما أنه لا يعني الانفلات من قيود الروتين إلى متعة ممتدة مُستدامة على حساب رفيقة الدرب والعمر، والأبناء حتى وإن كانوا قد كبروا وشقوا طريقهم في الحياة، ولا يعني هجر الأوطان مهما كان الزحام قاسياً والحر شديداً، فحب الأوطان والديار من حسن الإيمان. ومن يعقّب ويقول: إنني لم أهجر (أم دحيّم) فهي معي تحت المطر فقد أعيد النظر جزئياً في طريقته، أما الأوطان فلها حق الحب والولاء والوفاء.
t@alialkhuzaim