هذه قصيدة لمعالي الدكتور عبدالعزيز محيي الدين خوجة وردتْ بديوانه (إلى مَن أهواه)، ثم وردتْ آخر الأمر بسياق آخر بديوانه الكبير (رحلة البدء والمنتهى)، وهذا نص المقطع الأول:
وتحترقُ الأصابع من
يدينا عند مُفْترق الوداعِ
وفي العينين أصواتُ (م)
استغاثاتِ المُنَى نُـهْبُ ارتياعي
أُقَلِّب خافقي خلف (م)
المدى حيرانَ في كفِّ الضياع
كأنَّ القلبَ رفُّ الجفنِ
(م) خفقاً في مدارات الشراع
كأنَّ الموجَ أَبْحرُهُ
دميْ يُرغي بعاصفة التياعي
قال أبو عبدالرحمن: لن أبْخسَ القصيدةَ حظَّها من الجمال الفني، ولن أُسامح في النقد إن أتاح الله لي فُرصةَ ما أتمنَّاه من عَرْكِ الأُذن؛ فالقصيدة بادئ ذي بدءٍ ذات جمالٍ فكريٍّ أكثرُ منها ذات جمالٍ وجدانيٍّ؛ فالوداع الذي هو عذاب العشاق بترقرق الدموع في العينين قبل انهمارها أصبح أصواتاً تستغيث؛ فيالله قد أصبح الدمع المترقرق هديراً كاصطفاق الأمواج!!.. إذن هذا جمالُ خيالٍ مصدره التَّأنُّق الفكري، وهي تستغيث مِن ألمِ الوداع الذي يُبدِّد نعيم اللقاء شَذرَ مَذرَ؛ فالارتياع إذن من الفراق الذي يقطع تواصل المنى.. والقلبُ حُرٌّ بنفسه في التقلب لا يقلِّبه إلا خالقه، و(خلفَ المدى) من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ فمآل الكلام إلى (المدى الخلفي).. ولا إحالة في ذلك؛ لأن المدى هو اللقاء المرغوب اتصاله، وقد انقطع ببداية الوداع إلى ما لا يعلم إلا الله مقدار مداه؛ فكان المدى خلفياً بعد بداية الوداع، وهو الذي يحن إليه القلب.. والدكتور لا يملك تقليب قلبه.. أي تصفيقه بين الضلوع، ولكنه يُقلِّب البصيرة التي هي رُؤْيةُ القلب لتتجه خلف المدى المحبوب من اللقاء، والقلب حيران تجذبه أبعاد مدى الفراق المجهولة التي يفزع منها القلب، وهذا هو معنى الوقوع في كف الضياع؛ فهذا جمال فكري آخر من تخيُّلات العقل.. والشراع إذا لعب به الموج أو لعبت به الرياح يُكْنَى به عن المجهول والحيرة والضياع؛ لأن مداراته ليست على صراط مستقيم، ومقارنة خفقان القلب برفيف الجفن يعني أن رؤية القلب ترف رفيف الجفن في رؤيتهما حيثما تقلبت مدارات الشراع في الضياع المجهول مداه؛ فهذا جمال فكري يَضْعُف فيه عنصر الخيال؛ لأن السياق وصف مطابق وهو ترتيب عقلي حسي، وليس تشبيهاً مُقارباً يُدَوِّم فيه الخيال وَفْق قُدْرةِ المَلكة.. أعني أوصاف رؤية القلب والعين التي تتأرجح بتأرجح المرئيِّ وهو مدارات الشراع..
وهذه الرؤية المضطربة تنعكس على البحر؛ فيتحوَّل الموج الأزرق العاتي إلى شَبَهِ دم الشاعر لوناً وصخباً لا كثرة؛ لأن دماء كل البشر لا تملأ أي بحر، بل قد تكون بحيرات.. وحرصت - وَفْق منهجي النقدي - على الجانب التفسيري ابتداء حتى لا يُساء فَهْمُ القصيدة.. وهي في ديوان (إلى من أهواه) كما أوردته غريد الشيخ في كتابها: (تقنيات التعبير) بتقديم الشاعر الوديع جورج جرداق؛ فورد النصُّ عندها هكذا: وتحترق الأصابع بالأنامل.. ووردتْ نَهب بفتح النون، وكأنَّ القلب خفقةُ عيون.. وخلاصة رأيها في القصيدة أنها صورة مًمَيَّزة عن تجرية قد يعجز الإنسان عن التعبير عنها؛ لأنها مبهمة غير واضحة، وأن الجدة تأتي إما من اختراع المعنى، وإما مِن إعادة تشكيله باختصار الطويل، أو تغيير الصورة، أو إجادة الموسيقى..
ولم تُبيِّن نصيبَ القصيدة من أنواع ذلك التجديد.. وجاء في كتاب: (عبدالعزيز مُـحْيى الدين خوجة) للدكتور ميشال كعدي إشارة موجزةٌ توافِق ما ذهبتُ إليه، وهي أنَّ البُعْد الجمالي في القصيدة عنصر فكري.. وأوردت الدكتورة حورية الخمليشي في كتابها: (التجليات الفنية) ثلاثة أبيات من المقطع الأول، وأوردتْ من المقطع الثاني قوله:
وهلْ رَحَلتْ وفي عيني
مفاتِنُها تُراودني بأشواقي
وليس لها من تعليق إلا بكلام إنشائي عادي، وهو: أن في العين معاناة وأصوات استغاثات؛ فتعبِّرُ عن أسى الرحيل ورحلة الضياع في مدارات الشراع !!.. وهذا كقول العابث:
الليلُ ليلٌ والنهارُ نهارُ
والطيرُ طيرٌ له منقار
والذباب طير وليس له منقار، وإنما له خرطوم دقيق يجذب به ولا ينقر !!.
قال أبو عبدالرحمن: وإنني لأعجب من بقية دارسي شعر الدكتور كيف أهملوا دراسة هذه القصيدة ذات البنية الفكرية، وقد أكثروا اللغو في دراسة ما هو دونها ؟!.. وهذا هو نص المقطع الثاني:
وتسألني ضلوعي كيف
(م) أتركها لأنساها بأعماقي
لِتبْقَى صوتَ ذاكرتي
وتسكنَ كلَّ إدراكي وآفاقي
فهل رحلتْ وفي عيني
مفاتِنها تراوِدُني بأشواقي
أناديها فألقاها
وقد هَلَّتْ على ليلي وإشراقي
لقد رحلتْ بأوردتي
وما غابتْ عن الرؤيا بأحداقي
وسُؤال الضلوع إنما هو من وجيف القلب واضطرابه بين الضلوع، وصوتُ الذاكرةِ هو البوح الشِّعري، والسُّؤالُ بـ (فهل) سؤال استنكارٍ واستبعاد، والبيتُ بعده تفسيرٌ للسؤال الإنكاري، والبيت الذي بعده تكرارٌ لمعاني البيت الثاني والثالث والرابع.. وقُوام استكمال الجمال الفني هو استكمال التصحيح اللغوي والبلاغي والموسيقي؛ فأما اللغة فلا تصحُّ (النُّهب) بضم النون المشدَّدة بأيِّ وجهٍ؛ وإنما الصوابُ (النَّهب) بالنون المفتوحة المشدَّدة تأتي للحدث الذي وَقَع اسماً للغنيمة واسماً للمنهوب من غيرِ مراعاةٍ للعدد، وعند مراعاة العدد تكون واحداً جمعها نِهاب بكسر النون اسماً للمنهوب، وتكون واحداً جمعها (نُهوب) بضم النون جمعاً لفعل الناهبين ما نهبوه ولا يكون ذلك إلا في غنائم من غارات مُتَعدِّدة.. وتأتي مصدراً للفعل (نهب)، والمصدر اسمٌ لعموم الحدث الذي وقع ماضياً، أو يقع الآن، أو سيقع في المستقبل..
ولا يجوز ضم نون النهب إلا بدخول التاء (النُّهبة)؛ فتتميَّز بهذه الصيغة اسماً للمنتهب من غير مراعاة أعداد المنتهب؛ فإذا أردتَ الجمع قلتَ منتهبات؛ والسرُّ في ذلك أنَّ النُّهبة صيغة لما انتهبتَه أنت وحدك ، أو مُنحته في غارة واحدة.. ولا معنى لقول الجوهري رحمه الله تعالى في الصحاح: النُّهبَى كل ما أُنْهب، وأنَّها مصدر بمعنى المفعول؛ لأنَّ المصدر واحد هو النَّهب بالنون المفتوحة المشدَّدة، ولا معنى للألف المهموزة المضمومة في (أُنهِب) وهو فعلٌ مُـتَعَدٍّ بلا ألف مهموزة إلا بتضمينه معنى (مُنح) بضم الميم النُّهبى؛ فعاد الأمرُ إلى التسمية.. والفعل مصدرُه واحدٌ إلا بتعدُّد ما يعمل عمل الفعل من المشتقات في اصطلاحهم، وهي الأسماء التي تعمل عمل الفعل - والمصدر نفسه يعمل عمل الفعل -؛ فذهب جمهور اللغويين والنُّحاة إلى تعدُّد المصدر توهُّماً.. وليس معنى هذا أنَّ صيغةَ (فُعْلَى) لا تقبل الجمع، بل لا تقبل الجمع في مفردة (نُهبَى)، لأنَّها تعيَّنت اسماً لما انتهبَه المنتهب أو مُنح إياه سواء كان قليلاً أو كثيراً، وسواء كان دُفعة واحدة أو دُفعات في غارة واحدة؛ وإنما تتعدَّدُ في عدد من الغارات.. والصواب في سياق الدكتور (نَهْبَ ارتياعي) بفتح النون والباء ذات الواحدة من تحت، ولا معنى لضمهما، وهي ههنا مصدرٌ لفعلٍ مُقَدَّر هو خبر (أصواتُ)، وهو (نُهِبَتْ)، ولا تصلح خبراً؛ لأن المصدر مفتَقرٌ إلى فعلٍ يُحدِّد زمن الحدَث؛ وإذا جاءت صيغة المصدر خبراً فهي اسمٌ لحدثٍ وقع أو عُيِّن بالوصف كقولك: المستغربُ ضربٌ موجع، أو ما لا يُطاق ضربُ زيد، أو إذا كان خبراً لحدث لم يقع إذا دل السياق على ذلك مثل: الظلم ضربك زيداً.. وأنت تريد: الظلم أن تضربه؛ فالمصدر فعل مطلق مقدَّر.. أي ضربك زيداً ضرباً ظالماً.. والمصدر ههنا مفعولٌ مطلق حدد النوع بإضافته إلى الارتياع.. وارتياعُ الدكتور ثابتٌ لم يُنْتهب؛ وإنما الذي انْتُهب استغاثاتُ المنى؛ فكان هذا الانتهاب مُنْتجاً ارتياعَه.. (والأصابع من يدينا) احترازٌ من أصابع الرجلين، ولا معنى لهذا؛ لأن حبيبة القلب لا تُوَدَّع إلا باليدين الكريمتين.. ورواية (وتخترق الأصابع بالأنامل) لا تقضي على هذا الفضول إلا بتكلُّف، وهو أن حرارة الوداع بالأنامل تسري إلى الأصابع، ولكنني لا أتصوَّر وداعاً بالأنامل، بل الأصدق من ذلك ما شَدَتْ به السِّت (هات إيديك ترتاح لِلَمْسَتِهِم إيْدِيَّا)، وحرارةالوداع تُحرق هذا الارتياح، ولو كنتُ الشاعر لقلتُ (وتحترق الهناءة في).
وعن البيت الرابع من المقطع الأول أُبيِّن أنَّ (رفَّ قلبه إلى كذا) بمعنى ارتاح، وهذا المعنى لا يناسب سياق الشاعر.. ورفيف العين مجازٌ في مادَّة (رَفَّ) بمعنى اختلاجها واضطرابها من التحديق؛ فلا تسكن حتى تُبصر ما تريده كما قال شاعر لم يذكر اللغويون اسمه:
لم أدْرِ إلا الظَّنَّ ظن الغائبِ
آبِكِ أمْ بالغيثِ رفَّ حاجبي
والشطر الثاني يُؤذي الأُذن من أجل مستعلن /ه///ه؛ بل بحر الرجز (حمار الشعر) كله أصبح نثرياً لمَّا كثُرتْ زحافاته حتى ذهبت موسيقاه؛ ولهذا استسهله ناظمو العلوم؛ فلما ذكر الشاعر أداة التشبيه في قوله:
كأنَّ القلبَ رفُّ الجفنِ
(م) خفقاً في مدارات الشراعِ
علمنا أنه أراد اختلاج القلب كاختلاج العين؛ فالصورة جميلة فكرياً، ولكنها ذات معاياة لغوية، وتكلُّفُ اللُّغة يجعل جمال الصورة باهتاً، ولو كنتُ الشاعر لقلتُ:
كأنَّ وجيبَ قلبي رَفَّ
(م)جفنٍ في مدارات الشراع
فتكون (رفَّ الجفن) مفعولاً مطلقاً، وجواب (كأن) العاملُ فيه مُقّدَّر، وهو الفعل المضارع يَرِفُّ أو الماضي (رفَّ).. أي رفَّ رفَّ جفنٍ.
قال أبو عبدالرحمن: تبيَّن بهذا جمالُ الصورة فكريّْاً، وتبيَّن ما أُضمره من (أمانة القلم) مع أحب الناس إليَّ بتصحيحاتٍ لغوية هي الشرط الكمالي لجلال الجمال الفني؛ وإنني والله لأشتهي عَرْك الأُذن من أحبابي كلَّما سنحتْ الفرصة، فهذه جِبِلَّتي، ولن تجد للفطرة تبديلاً ولا تحويلاً؛ فإلى لقاءٍ إن شاء الله مع الشأن الموسيقي، والله المستعان، وعليه الاتِّكال.