ليس أجمل من الصدق في كلِّ حالٍ، والصدق فضيلة عظمى لا يقدر على التمسُّك بها وانتهاجها كأسلوب حياة وسمة روح إلا من لديه القدرة على الانتصار الدائم على أهواء النَّفس وأطماعها وميولها وظلمها للآخر وبخسها لحق الغير، ولكن الصدق حينما تصل المسألة إلى التَّعامل به كإبداع وجنوح إلى الخيال الذي هو المادَّة الأولى للشعر فإنَّ المسألة تختلف هنا فكلَّما جنح المبدع بإبداعه إلى البعد عن التقريريَّة اقترب من الشعر لذا قيل عن الشعر أن (أعذبه أكذبه).
ولكن هناك صدق آخر في ممارسة العمليَّة الإبداعيَّة وهو ما يسمى بالصدق الفني أثناء ممارسة (الكذب العذب) وهو نقل شعوره وإحساسه بفرح أو ألم ما من حدث ما وقد يكون الحدث صغيرًا في نظر النَّاس بعين الحقيقة ولكن وقعه في نفس المبدع قد يختلف كبرًا وصغرًا والشاعر حين يتكلَّم في قصيدة عن هجر أو وصل أو ظلم أو إنصاف فإنَّه يراه بعدسته هو لا بعدسات أعيننا وميزان عقول غير الشعراء وقد تروى لنا حادثة ما وتُؤثِّر بنا كثيرًا ولكن حين تنقل تلك الحادثة على شاشة شاعر متمكن فقد تصبح أعمق وأكثر أثرًا من نقلها قبل أن تمر بمنجم الشاعر الذي يصهرها ويخرجها بصورة مختلفة في الشكل والمضمون والتأثير.
fm3456@hotmail.com