كتب - عبدالعزيز القاضي:
يقول: عبدالمحسن الشدوخي
هذا وأنا جنبك لك القلب خفاق
الله يعين القلب لابعدت عني
الفقد شعور مؤلم, محطم للمشاعر, ولم يبك الشعراء على شيء كبكائهم على فقد الشباب وفقد الأحبة, ولذلك فإن شعر الرثاء أصدق أغراض الشعر لأنه يعبر عن فقد حقيقي, قيل لأعرابي: ما بال المراثي أجود أشعاركم؟ قال لأننا نقول وأكبادنا تحترق!
والتوديع للفراق بمنزلة الأذان للصلاة, ولذلك تكتوي به الروح, وتذوب عند حلوله, فتنهمر الدموع, وتبدو على النفس أجلى مظاهر الألم والفزع والتعلق الشديد, قال ابن زريق البغدادي مصورا مشهدا متحركا مفزعا لموقف الفراق:
ودّعته وبودّي لو يودْعني
صفوُ الحياةِ وأني لا أودّعهُ
وكم تشفَّع لي ألاّ أفارقه
وللضرورات حالٌ لاتُشّفعه
وكم تشبثَ بِيْ يومِ الرحيل ضحى
وأدمعي مستهلاتٌ وأدمعهُ
ومشهد التشبث بعيون دامعة, وقلوب فزعة ساعة الفراق يغني عن كل شرح.. وفي الشعر النبطي يقول أحمد الناصر:
هلّ دمعي على خدي نهار الوداع
يوم قالوا بمان الله.. جاني بلاي
التفت والتحظني بالعيون الوساع
وأرسل الدمعة اللي زاد منها عناي
صرت مثل الغرير اللي بسنّ الرضاع
مقدر المشي قدامي ولا ارجع وراي
وقال عبدالله الفيصل:
ألا واشيب عيني يوم قالوا لي فمان الله
وتحققت إنهم من عقب جمعاهم مقفّيني
تغايا لي خيال الموت يومه مد لي يمناه
ولدّ بعينه الخرسا عقب ما اقفى يراعيني
ولعبدالله الفيصل رحمه الله لغة خاصة في التعبير, تتمثل في ألفاظ نادرا ما تراها عند غيره, لغة مركزة تنقل المعنى بكل ظروفه ومؤثراته, وتمثلت هنا في كلمة (تغايا) ذات المعنى اللغوي وهو: لاح, والمعنى النفسي الذي يصعب تحديده والإحاطة به.. وفي الوداع أيضاً قال سليمان السلامة:
لحظة التوديع فيها ويش أقول
كل ما بالقلب قالته الدموع
لحظة التوديع من حزن يهول
وقّفت بشفاي للعبرة خضوع
ومن لم يفقد فإنه يتوجس من الفقد ويخشاه ويرتاع له كلما خطر طيفه بباله أو مر بتفكيره. والأرواح أراضٍ خصبة تزدهر بتعانق القلوب المتوافقة, وتنتعش بتواصلها مع الأحبة, فإذا فقدت أحبتها ذوت, وتألمت, ونزفت دمعا, ونزّت دما. والإنسان اجتماعي بطبعه محتاج إلى الآخرين. وليس ألم الفقد خاصا بالحب والأحبة, بل كل فقد مؤلم, فالأمهات يتألمن لفقد أبنائهن وأحبائهن, والإخوة والأصدقاء يتألمون من فقدان إخوانهم وأصحابهم, وهكذا الزملاء وكل من تجمع بينهم علاقة تواصل أو وشيجة من دم أو رحم أو صداقة أو زمالة أو جوار.. أو نحو ذلك.
وأشد من الألم توجسه, وتوقّعه, وانتظاره, وأشد من القتل انتظار القتل, والفقد نوع من أنواع قتل الروح, وتدمير المشاعر, وقد فطن الشعراء السابقون إلى معنى التوجس من حالة الفقد قبل تمكنه, فعبّروا عن ذلك, قال سحيم عبد بني الحسحاس, متألما بعد أن باعه مولاه إلى رجل ارتحل به:
أشوقاً ولمّا يَمضِ لي غيرُ ليلة!
فكيفَ إذا خبَّ المطيُّ بنا عشرا؟
وقال مجنون ليلى:
أشوقا ولما يمض لي غير ليلة!
رويد الهوى حتى يغبّ ثمانيا
فسحيم يتألم من الفقد, ويعاتب قلبه على وجيبه واشتياقه لمالكيه السابقين وهو لم يفارقهم إلا منذ ليلة واحدة, ويتساءل كيف سيكون الوضع إذًا بعد عشر ليال؟ والمجنون لا يتصور - كما يقول الدكتور علي القاسمي - مرور عشرة أيام على فراق المحبوبة, ويحسب أنّ ثمانية أيام من الشوق كافية لذهاب عقله أو قتله.
وتبدأ رحلة العذاب من ألم الفقد مع أولى خطوات الفراق, قال الشريف الرضي:
وتلفَّتتْ عيني فمُذْ خفيتْ
عنها الطلولُ تلفّتَ القلبُ
وقال أحمد الناصر:
كذوب اللي يقول أقوى فراق الصاحب الغالي
متى ما غاب عنك اللي توده بانت الخله
وقال جزاء الحربي:
ليا شدو العربان من عقب مقطان
والصبح منهم جانب العد خليا
وتفرقوا من نقرة العد سلفان
أحدٍ رحل جنوب واحدٍ شمليا
وقفّوا وراحوا مع وسيعات الاوطان
وكلٍّ على سفن الصحاري رحليا
عليهم الخافق تقل فيه نيران
وتصلاه غمزات الهواجيس صليا
والشوق في العادة يكون للغائب البعيد عن العين, لكنه في بيت عبدالمحسن الشدوخي الذي نسيح فيه هنا, شوق على القُرب, وهنا مفصل المفارقة المدهشة, فهو شوق في حال انغماس وغرق في لذة اللقاء, والخوف على زوال الواقع دليل على جمال الواقع, وقوله (هذا وانا جنبك) تصوير تخييلي لعمق الأثر في نفسه, وإيحاءات كلمة (هذا) تتزاحم على شاشة التصور لتقدم صورة مكثفة للفكرة بكل أبعادها النفسية. وقوله (لك القلب خفاق) كناية عن شدة الشوق والحب. وإذا راعينا طبيعة الإنسان الملولة حتى من الملذات, وتأملنا استمداد الشاعر - بقلب خاشع - العون من الله هنا على تحمل فجيعة البعد, والصبر على الفراق, تجلى لنا عمق هذا الحب والشوق على القرب, ناهيك عن أن هذا الفراق غير متوقع ولا مبرمج سلفا, فكيف بحال الشاعر إذن لو كان ينتظر وقتا معينا لانتهاء هذه اللذة!
إذا فالشوق لا يكون على البعد وحده بل يكون على القرب أيضا قال الشريف الرضي:
وكنتُ أظنُّ الشوقَ للبُعدِ وحدَه
ولم أدرِ أنَّ الشوقَ للبعدِ والقربِ
وقال أيضا:
أشتاقُهم إنْ دنوا منّي وإنْ بعدوا
وإنْ أقاموا وإنْ غابوا وإنْ حضروا
وهو هنا يقرر أنه يشتاق إليهم في كل حال.. وقال ابن الرومي مؤكدا حقيقة أن الشوق لا علاقة له بالبعد:
أعانقها والنفسُ بعدُ مشوقةٌ
إليها وهلْ بعدَ العناقِ تدانِ؟
وألثمُ فاها كَيْ تزولَ صبابتي
فيشتدُّ ما ألقى مِن الهيمانِ
ولم يكُ مقدارُ الذي بي من الهوى
لتشفيَه ما ترشفُ الشفتانِ
كأنَّ فؤادي ليسَ يَشفي غليلهُ
سوى أنْ يرى الروحَين يمتزجانِ
وابن الرومي هنا وإن خدش سمو المحبة بذكر العناق واللثم والرشف, وهي مظاهر جسدية أكثر منها روحية, إلا أنه يعود في النهاية ليقرر حقيقة شوقه معلنا أن أعلى أمنياته هي امتزاج روحه بروح محبوبه.. ولعله ذكر العناق واللثم ليمعن في تصوير عمق ولهه وشوقه, بل لعله أراد أن يبين أن سبب ولعه الشديد بمحبوبه ما هو إلا ولع روحي, وهذا يبدو لي أنه غير صحيح, بل هو شوق جسدي وإن ادعى - أو خُيّل إليه - أنه روحي, فامتزاج الروحين الذي يطمح إليه ماهو إلا شوق إلى الوصول إلى أعلى درجات اللذة الجسدية التي ستنطفئ ولا شك بمجرد بلوغها, بحكم أنها لذة زائلة ينهيها الارتواء, على العكس من لذة الروح الدائمة المتواصلة التي لا إشباع فيها ولا ارتواء.
وإذا لم يكن عبدالمحسن الشدوخي سابقاً إلى هذا المعنى كما رأينا, فإن لبيته في النفس موقعاً جميلاً, لأنه صاغه صياغة وجدانية مؤثرة, وإذا كانت المعاني مطروحة ملقاة في الطريق كما يقول الجاحظ, فإن الجمال في الأدب لا يكون في الأفكار بقدر ما يكون في الصور واختيار المفردات المؤثرة. أظن أن تغيير جينات الأفكار لاستيلاد صور جديدة لها يمثل جانبا فرعيا في جمال الأدب, بينما الرئاسة كل الرئاسة للصور والمفردات والتأثيرات الروحية الخفية والله أعلم.
alkadi61@hotmail.com