ابتداءً المرأة جوهرة مكنونة في المجتمع المسلم، وإحصاء ليس هناك أمة في التاريخ الإنساني احترمت هذا الكائن مثل أمة الإسلام، الذي حفظ لها كرامتها وضروراتها حتى جعلها سبباً من أسباب دخول الجنة بنتا وزوجة وأما وأختا، فصان عرضها وصاغ منها ملكة تتربع على عرش أسرتها، وتتفنن في تربية أبنائها على الوجه الأكمل، مراعيا خصوصيتها
وطبيعتها الأنثوية وراحما ضعفها، فميزتها في اختلافها عن الرجل وظلمها في مساواتها به كما تدعي بعض الأيديولوجيات واللجان الحقوقية، فرعاها الإسلام حق الرعاية ولذلك هي مكون مهم للمجتمع ودعامة أساسية لثباته أمام الأعاصير وهوج الرياح، فالأولى زرع الثقة فيها من خلال استحضار مسؤوليتها الجسيمة في هذه الحياة الدنيا ولكن ما نراه اليوم من تأزيم قضاياها واستعمال حاجياتها في الحرب بين ما يسمى الليبرالية والحركية هو بعينه الظلم العظيم الذي أهدر حقوقها وخطف حريتها، وفرض عليها الوصاية وافترض فيها الخيانة وتحول هذا الكائن الوديع إلى أداة لتصفية الحسابات بين تيارات وطوائف وجماعات لا يعلم سرها إلا الله جل وعلا، فكان تعليمها أزمة يؤرخ بها، وعملها مواجهة شرسة بين الكفر والإسلام، ورياضتها مسألة شرعية تقتضي فتوى عاجلة، وتغريبها شماعة تعلق عليها نوايا المسؤولين والكتاب والمثقفين، وجامعتها قضية رأي عام تحت الضوء دائما، وقيادتها للسيارة مسألة قطعية التحريم، ودخولها في مجلس الشورى كارثة أخلاقية في نظر القوم، وعزلها عن مظاهر الحياة العامة ضرورة قصوى حتى اقترح بعضهم هدم المسجد الحرام لأنه مسرح للاختلاط بها، وباختصار أصبحت المرأة السعودية “فوبيا” مرعبة بين طرفي نقيض من الأطراف كلها، طرف يحاول استغلال حاجياتها ويقذفها إلى العراء والانفلات لبث نسقه الثقافي ومشروعه الليبرالي وطرف يحاول أن يخسف بها ويعيدها إلى عصور الظلام حيث الوأد والحرمان والتهميش نكاية بالطرف الأول, وكل ذلك وشأن المرأة السعودية بعيد عن الشرع الذي أنصفها ومخالف لمنطق الأشياء..
أيها السادة.. لكي نفهم مصطلح منطق الأشياء فيمكن لنا أن نستحضر جواب العالم منديلييف حينما اكتشف الجدول الدوري في فبراير عام 1869 لدى تأليف “أصول الكيمياء” فقال : “إنني ربما فكرت فيه طوال عشرين عاما، بينما تعتقدون أنني جلست.. وفجأة كان كل شيء جاهزا”. وقام هذا العالم منديلييف في 1869 م - 1871 م بتطوير فكرة الخاصية الدورية واستحدث المفهوم حول مكان العنصر في الجدول الدوري واعتمادا على هذا عدل قيمة الأوزان الذرية لتسعة عناصر وأورد خواص ثلاثة عناصر أخرى لم تكتشف بعد. ومن ثم تنبأ أيضا بوجود ثمانية عناصر أخرى منها البولونيوم (اكتشف في عام 1898) والاستاتين (اكتشف في عامي 1942 - 1943) والتكنيتيوم (اكتشف في عام 1937) والفرانسيوم (اكتشف في عام 1939). وفي عام 1900 خلص منديلييف ووليام رامزي إلى استنتاج حول وجوب أن تدرج في جدول العناصر المجموعة الصفرية الخاصة من الغازات النبيلة. وحينما قال منديلييف: سيأتي يوم وتكتشف هذه العناصر فقد صدق منديلييف فيما بعد، والأعجب من ذلك كيف حدد هذا العالم خاصيتها الدورية الدقيقة بناء على العناصر الموجودة.. إنه منطق الأشياء... وحينما اكتشف العلماء الخلية الجسدية وعرفوا أنها تتكون من 46 كروموسوما صرخ أحد العلماء وقال: لابد أن تكون الخلية الجنسية تحتوي على 23 كروموسوما، وجاء العلم وأثبت هذا ليتأكد لنا حقيقة منطق الأشياء التي ربما عجزت عقولنا عن الوصول إليها وسيأتي من يصل لها ذات يوم، وهكذا يمكن للإنسان أن يرسم طريقه من خلال تجاربه وتوقعاته التي لابد أن تكون صحيحة إن كان يفكر بمعطيات صحيحة، وحينما يقع بعضهم في الأخطاء فذلك نتيجة أنهم يفكرون بطريقة خاطئة أو من يفكر لهم لم تتوافر له المعطيات المعينة على الصواب، ولم يدرك ما سماه الفيلسوف هيجل مكر التاريخ، الذي يقلب كل المعادلات بطريقة مفاجئة تحت مسمى تكذيب المستقبل، والعقلاء وحدهم هم الذين يرون كرة الثلج تكبر شيئا فشيئا لترتطم في نهاية الطريق بصخرة قاسية وتتفتت وكأنها لم تكبر ذات يوم، والعقلاء وحدهم أيضا هم الذين يقدرون الأمور مقاديرها ويضعونها في موضعها دون تأزيم شرس وحرب ضروس تحقيقا للمصلحة التي قال أهل الأصول في تعريفها: هي المنفعة أو وسيلتها التي قصدها الشارع الحكيم لعباده من حفظ دينهم نفوسهم وعقولهم ونسلهم وأموالهم. والعجب أننا نرى توسعا في تطبيق قواعد شرعية يراها عالم من علماء الأمة بعين تختلف عما ياها علماء آخرون في مسألة صغيرة واحدة وحرب التعصب التي تكتنفها كبيرة تتسع لتشمل الأطراف كلها والمجتمع بأسره، والكارثة حينما يتم رفض كل ضرورة تتعلق بحياة المرأة ويقتضيها منطق الأشياء تحت مسوغات فوبيا المرأة التي اكتسحت الذهنية بعامة في صورة تثبت الاحترافية والعدائية في استعمال مصطلحات الإقصاء والاتهام بين الأطراف، علما أن صور كثير من مسائل الخلاف المطروحة في ذهنية الناس اليوم قد وسعتها الشريعة التي وسعت ما هو أعقد منها بكثير عبر عصور التاريخ الإسلامي أيها السادة... لماذا لا نستحضر في بحث هذه المسائل إجماع العلماء على أن أحكام الشريعة الإسلامية مشتملة على مصالح العباد، ومحققة لها، ووافية بها، سواء أكانت ضرورية أم حاجية أم تحسينية. وأنها دائما تراعي حاجة المجموعة التي لا يؤثر وقوع فرد منها في المحظور حرمان تلك البقية السليمة من ذلك المشروع الحلال، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى 11/347): “ولا يمكن للمؤمن أن يدفع عن إيمانه أن الشريعة جاءت بما هو الحق والصدق في المعتقدات، وجاءت بما هو النافع والمصلحة في الأعمال التي تدخل فيها الاعتقادات”. وقال الإمام ابن القيم في (مفتاح دار السعادة 2/22-23): “وإذا تأملت شرائع دينه التي وضعها بين عباده وجدتها لا تخرج عن تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت قدم أهمها وأجلها وإن فات أدناها، وتعطيل المفاسد الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت عطل أعظمها فساداً باحتمال أدناها. وعلى هذا وضع أحكم الحاكمين شرائع دينه دالةً عليه، شاهدةً له بكمال علمه وحكمته ولطفه بعباده وإحسانه إليهم. وهذه الجملة لا يستريب فيها من له ذوق من الشريعة وارتضاع من ثديها وورود من صفو حوضها، وكلما كان تضلعه منها أعظم كان شهوده لمحاسنها ومصالحها أكمل... “ وقال الإمام الشاطبي في (الموافقات 1/199): “المعلوم من الشريعة، أنها شرعت لمصالح العباد، فالتكليف كله، إما لدرء مفسدة، وإما لجلب مصلحة، أولهما معا”.
نعم وباختصار لا يمكن ضبط مسار الحياة الجميلة الأشبه بالجدول الدوري لمندلييف السابق إلا بفهم معادلاتها وحاجات أطراف محصلتها النهائية، ولا يعني افتراض الخطأ في أي طرف حرمان بقية الأطراف من حق إثبات النظرية، كما أنه من العقل والحكمة ومنطق الأشياء عدم تجاهل أهمية أي عنصر من عناصر الجدول الدوري وتهميشه في المفاعلات الكيميائية، ولابد من تفاعله مع عناصر الحياة ولو بعامل مساعد كما يقول الكيميائيون، لأن العنصر الخامل والنشيط مكملان لبعضهما في ذلك الجدول الدوري وربما كان أحدهما ضروريا لفهم منطق الآخر الصحيح الأشبه بمنطق الكسوف والخسوف والليل والنهار والمدّ والجزر وغير ذلك من الظواهر الكونية التي لا يفهم منطقها إلا بفهم منطق وجود الشمس والقمر من حولنا ولا يُفهم منطق الشمس والقمر إلا إذا فهمنا علاقتهما بالأرض ولا يُفهم منطق المنظومة الشمسية إلا إذا فهمنا علاقتها بمجرة درب التبانة، وهكذا كل الأشياء والنظريات والأفكار لابد لها من منطق وإلا كانت فوضى لا تضبط مسارا ولا تحقق محصلة منطقية لأطراف المعادلة، ومن أجل الصور المنطقية وأروعها التفكير الإسلامي بمرونته المتعلقة بصياغة حياة الكائنات بعامة وما يتصل بها من طريق مباشر وغير مباشر، ولأجل أن يكون ذلك التفكير سليماً ومنطقياً وتكون نتائجه صحيحة ومعادلاته ذات محصلة إيجابية، فالحاجة ضرورية إلى قواعد منطقية عامة لا يمكن أن تتعارض مع نصوصه الشريفة ضمانا لتحقيق السلامة ومشروعية الهدف. وبناء عليه فليس من حق أي جزء من أجزاء المنظومة أن يصيغ مشروعه الخاص دونما نظر إلى حياة الآخرين ممن هم حوله وبشرط ألا تتقاطع مصلحته مع مصالحهم وإلا فمصلحة المجموعة مقدمة على مصلحة الفرد وحقه في العيش الحلال لا يخضع لرغبة صاحب مشروع ما ولا لعقده النفسية، والغاية في الظلم أن يتم تحويلهم بطريقة ممنهجة إلى كومبارس، لا يحق لهم أن يحلموا بدور بطولة على مسرح الحياة التي هم جزء منها بعيدا عن المنطق الرباني القائم على العدل والميزان بالقسط بين الحاكمين تفاصيل هذا الكون كله، كما لا يحق لصاحب المشروع الخاص أن يكون له استثناؤه ونظامه الذاتي دونما النظام العام الذي يحكم الأشياء كلها بمنطقية.
أيها السادة... إن الكارثة في أي مجتمع تكمن في غياب منطق الأشياء عن ذهنية أطرافه وحينها يصبح العيش فيه ضربا من ضروب المستحيل وبخاصة في ظل تحول أي مشروع ضروري للإنسان فيه إلى مشروع تأزيم مقرف وتعطيل ممنهج يكون الهدف من رفضه وتأزيمه والوقوف بوجهه هو مواجهة النظام والتشويش على الدولة وفرض التوحش على مفاصل الحياة دون النظر إلى حاجات الناس ومشروعيتها... والله من وراء القصد.
abnthani@hotmail.com