الأمل يتسع أمامها ببطء، يتماهى مع الأفق، الحيـاة عندهــا جافــة وحادة وبها وجع مفجع، تنكب على نفسها ووالدتها في كوخ خشبي عتيـــق يقع بمحاذاة المدينة شمالاً، وحيدتان تتقاسمان الحزن والألم والذكريات المرّة، وفتات الخبز اليابس وبقايا الماء في الزير القديم، المكان لحن نشاز متنافر الإيقاع والأصوات، وحيدة تئن على نفسها بحدّة حتى يمتزج أنينها بأنين أمها المريضة، لا النهار عندها له أول ولا الليل عندها ليل، نسمات الصيف والشتاء تمر عليها عبر نافذة الكوخ الخشبي المفتوحة بلا استئذان ولا مقدمات، ملامح الكوخ المتهالكة خالدة منذ عرفته، حتى بقايا الأواني المتآكلة وسط الغرفة الصغيرة، تغيّرت، لقد ازدادت قدماً واهتراء، في كل يوم وقبل أن يصيح الديك، عليها أن تتهيأ للخروج من ذلك الكوخ مع إشراقة الشمس، لتعمل على جمع العلب وأسلاك النحاس، عليها أن تمر في الشوارع والممرّات ومكبّات النفايا ت، متحاشية سيول المارة والسيارات ونظرات المتطفّلين، في نهاية النهار ترتمي متعبة على فراشها المهترئ، تدس وجهها وسط اللحاف، ما إن ترمي جسدها على السرير، حتى يتوقف الزمن عندها وتجيء الدمعة الحرّى بانسكاب تام، انقضت سني عمرها وهي رهينة مسارها الذي جف من اجترار خطواتها التي لا تثري ولا تروي من ظمأ، تلم شتات يومها حصاداً لركام أعوامها البائسة. الحياة عندها صدى يتردّد في ركودها المستسلم، لها ابتسامة لكنها خافتة تطل من خلف ملامحها الحزينة وتنفذ عبر حدودها المتداعية، إخطبوط الحزن ضخم لكنه احتل لنفسه مكاناً في صدرها تحاول إخراجه، لكن أذرعته قوية وصلبة وعنيدة. رائحة الحزن تتغلغل في أنفاسها يختلط بسيل الأمنيات، يجرفها إلى الشتات. في لحظة اكتشفت أنّ الكوخ له أبعاد أخرى لم ترها من قبل، وأنّ النافذة المطلّة على الفضاء أكثر شفافية وألفة، ومساحة الكوخ الصغيرة بأكملها واحة أسطورية الطريق إليها محفوف بأزاهير بيض كثوب عروس. فجأة وقفت تبحث في المرآة المكسورة عن ذاتها، عن تفاصيل امرأة تهيم في براري أحلامها تحلّق عالياً في فضاء الوجد، لكنها ما تلبث أن تسقط عميقاً إلى قاع هواجسها المرة، الأيام تمضي، مسامعها ترتقب وقع الآتي لعله يزفها خارج جدبها الأبدي. تقاوم من جديد إخطبوط حزنها ووحدتها، لا تريد أن تكون مجرّد كائن هلامي لهذا الوحش القابع في أعماقها، تحاول كبحماحه، بعد أن كانت هي من تغذيه بظلال الصبا التي تستدعيها بين الحين والحين، تكافح رغبة ذل السؤال بواقع العمل الصعب، مشدودة هي إلى أضيق الزوايا تتأمّل الوجود من خلال نافذة الكوخ. من عالم اليأس فجأة تتوهج بالتحدي، تنتزع جسدها من خلف الكآبة التي تحاول أن تشدها إليها، تعيد إلى نفسها التوازن والسكينة، كثمرة أنضجتها الشمس، تتجه نحو أمها، تباغتها بنظرة، تعاود النظر لا شيء سوى وجه مكتنز ينوء بالأوجاع والتجاعيد الكثيرة، تطوف بعينيها حول حدود الكوخ والأثاث الهزيل، ثم تدعو طويلاّ بأن يلطف الله بحالها ويغمرها بالسعادة والحياة الكريمة.
ramadanalanezi@hotmail.com