أدهشتني، وربما خيبت بعض آمالي - كمتابع لمعضلة “صراع” السلطة وغنائمها في اليمن - النتائج التي أسفر عنها مؤتمر مانحي اليمن، الذي عقد بقصر المؤتمرات في الرياض يومي الرابع والخامس من هذا الشهر (سبتمبر).. كما أدهشت بالتأكيد جماهير الشعب اليمني،
التي كانت تأمل وتتوقع الكثير من هذا (المؤتمر)، ومن هؤلاء المانحين الكبار في قدراتهم الاقتصادية، وفي محبتهم لليمن، وفي تطلع معظمهم إن لم يكن جميعهم في أن يتمكن يمن الأمن والاستقرار والوحدة في اجتثاث بؤر (القاعدة) من جنوبه وشماله.. بعد اصطفافهم تأييداً ودعماً لـ(المبادرة الخليجية)، وآليتها التنفيذية التي تم التوقيع عليها برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في قصره بالرياض.. في الثالث والعشرين من شهر نوفمبر الماضي، وحضور الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح وأركان حكومته.. كـ(طرف)، ومعارضيه وأحزاب (اللقاء المشترك) و(حراك الجنوب) و(الحوثيين) و(الأحمر) وجماعته وبقية فتافيت المعارضة.. كـ(طرف) مقابل.
فـ(الستة مليارات) دولار أو أكثر قليلاً التي تناقلتها تلك الأخبار المقتضبة عن (المؤتمر).. والتي شكلت إجمالي ما منحه المانحون فيه، وإن بدت مجزية في انتشال بلد صغير المساحة، قليل السكان، منبسط الأراضي.. فإنها لا تستطيع أن تقدم ما هو مأمول منها، في انتشال وطن كـ (اليمن) بمساحته الشاسعة، وملايينه الثلاثين، وأرضه الوعرة (التي تشكل ما يزيد عن ثلثه) بين جبال شاهقة ووديان سحيقة.. تعرض لحالة من العته والجنون في تدميره، لم تسلم منه حتى محطات الكهرباء، وشبكات الاتصالات الهاتفية ومصافي البترول وأنابيب نقله من مكامنه إلى موانئ تصديره.. بل ومباني بعض وزاراته، ومقر إذاعته وتلفزيونه ووكالة أنبائه بشبكات اتصالها السلكية واللاسلكية مع العالم.. إلى مقار شركتي طيرانه (اليمنية) و(السعيدة)، وعشرات العشرات من الدور والمنازل وبعض المستشفيات والمستوصفات التي لم يشفع لها من الدمار.. امتلاؤها بالمرضى من المسنين والنساء والأطفال..!
على أن هذه المليارات الست أو أكثر قليلاً التي نُسبت لإجمالي ما منحه المانحون في هذا المؤتمر.. إنما تعهدت المملكة بتقديم أكثر من نصفها (3,25 مليار دولار) في مؤتمر أصدقاء اليمن الذي عقد في شهر مايو الماضي.. قبل ثلاثة أشهر من انعقاد مؤتمر مانحي اليمن هذا، وقد قدم وزير المالية الدكتور إبراهيم العساف - مشكوراً - تفاصيل شفافة لما تعهدت به المملكة في ذلك المؤتمر.. يتضح معها - وكما قال بأن (منها مليار دولار كوديعة في البنك المركزي، بالإضافة لمشروعين ومنحة مقدارها 1,75 مليار لتمويل مشروعات إنمائية ضمن البرنامج الاستثماري.. علاوة على 500 مليون دولار لتمويل وضمان صادرات سعودية)!! وهو ما يعني أن إجمالي ما منحه الآخرون بعد ذلك بمن فيهم الدول الخليجية الخمس، ومندوبو الدول العظمى الأعضاء الدائمون الخمس في مجلس الأمن (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والصين والاتحاد الروسي) إلى جانب ألمانيا وهولندا ومندوب عن الأمم المتحدة إلى جانب نائبة رئيس البنك الدولي لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: السيدة أنجر أندرسون.. هو ثلاثة مليارات!! وهو مبلغ شديد التواضع لا يرقى لمستوى أزمة تدميرية كتلك التي طحنت اليمن وعلى مدى عام كامل.. من نوفمبر 2010م إلى نوفمبر 2011م.. وإلى أن جاءت المبادرة الخليجية بآليتها المنصفة التي استجابت لإلحاح التغيير عند المعارضين ولم تتجاوز شرعية الدستور اليمني عند المؤيدين، فمثل هذا المبلغ تقدمه بعض الدول الكبرى (منفردة) إلى بعض (حلفائها).. سنوياً وليس مرة واحدة في العمر!!.
على أن الطريف في هذا المؤتمر.. هو ما قالته نائبة رئيس البنك الدولي السيدة أندرسون، التي حثت المجتمع الدولي مشكورة على (دعم الشعب اليمني)!! وهي توصِّف حالته أدق توصيف: (فهناك عشرة ملايين مواطن يمني لا يستطيعون الحصول على احتياجاتهم الأساسية.. وهو ما يمثل 45% من الشعب)!! دون أن تفصح عن مساهمة البنك الدولي في فك هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة، ولو بقرض ميسر!! أما المندوب الأمريكي.. الذي لم يفصح - هو الآخر - عن مساهمة الولايات المتحدة الأمريكية بين المانحين.. فقد تساءل بقلق!! وربما بوقاحة (عن مستوى الضمانات المقدمة من قبل الحكومة اليمنية لتنفيذ المشروعات التي تكفل لليمن تحقيق الاستقرار)!! ليبقى السؤال عن غياب اليابان بإنسانيتها، والهند بروحها، والبرازيل بـ “شراكته” لليمن في ضبط “مزاج العالم”!! إذ يقول العارفون.. بأن أجمل فنجان قهوة هو ما كان نصفه مصنوعاً من البن “البرازيلي”، وربعه من البن “اليمني”، وربعه الآخر من البن “الحبشي”!!
***
ربما كان أفضل ما في هذا (المؤتمر).. أنه جاء في “موعده”.. وبعد انقضاء ستة أشهر على إنفاذ بنود المرحلة الانتقالية (الأولى) من آليات المبادرة الخليجية، التي بدأ تنفيذها فور التوقيع عليها في الثالث والعشرين من شهر نوفمبر من العام الماضي (2011م).. وهي: الأصعب والأطول أجندة، والأقصر مدة، فقد حُددت بـ (تسعين يوماً).. تنتهي في الثالث والعشرين من شهر فبراير الماضي.. على أن يجري خلالها تسليم السلطة فوراً لنائب الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وتشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة المعارضة، وإعادة هيكلة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، ورفع الآثار المسلحة من شوارع وميادين المدن اليمنية، وفك اعتصامات المعتصمين وتسريح المتظاهرين.. إلى آخر ما جاء في بنود المرحلة الأولى بإجراء انتخابات أو استفتاء - على وجه الدقة - لتشريع فترة الرئيس التوافقي المؤقت الرئيس عبدربه منصور هادي.
ولقد كان معجزاً أن يتم إنفاذ كل ذلك.. خلال تلك التسعين يوماً.. وبأعلى نسب النجاح حيث تم في آخر يوم من أيامها انتخاب الرئيس التوافقي (عبدربه منصور هادي)، لرئاسة الجمهورية.. وهو ما لابد وأن يحسب في النهاية للمخلصين من أبناء الشعب اليمني.. بل ولـ (الموالين) و(المعارضين) بعد أن أدركا خلال عام المعضلة فداحة ما وصل إليه حال اليمن، وحال أبنائه وشعبه ومنجزات ثورتيه في السادس والعشرين من سبتمبر 62م والرابع عشر من أكتوبر 68م، كما لابد وأن يحسب ذلك.. لجهود مبعوث الأمم المتحدة لليمن - بامتداد شهور المعضلة - السيد جمال بن عمر الدبلوماسي الهادئ والدءوب.. ذي الأصول اليمنية، الذي أحسب أنه لولا جهوده الأممية المستمرة والمفزعة لأطراف (المعضلة).. لما لجأ الجميع في النهاية إلى (سفينة المبادرة)، لتخرجهم من أوحال تلك المعضلة أو (شراك المآلات الكارثية) كما وصفها رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية السيد محمد عمر باسندوه.. في أحد تعليقاته الصحفية يوم افتتاح الجلسة الأولى لمؤتمر مانحي اليمن.
***
نعم.. جاء توقيت مؤتمر مانحي اليمن في موعده.. ليعين رئيسا الجمهورية والوزراء على إزالة العقبات أمام أول مهام المرحلة الثانية من (المبادرة).. وهي الحوار الوطني الشامل التي بدأ التلويح بها من قِبل معارضي (حراك الجنوب) و(اللقاء المشترك) اللذان وقعا على مرحلتي المبادرة في 23 نوفمبر الماضي، بل ومضيا في إنفاذ المرحلة الأولى منها.. والتي انتهت في 23 فبراير الماضي لتبدأ المرحلة الثانية والمقرر أن تنتهي في فبراير من عام 2014م بانتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة.. يأتي معها رئيس جديد، وبرلمان جديد، ورئيس وزراء جديد.. وكما تمنى رئيس المرحلة الانتقالية (عبدربه منصور هادي) عند تسلمه لمقاليد سلطاته في البرلمان اليمني في فبراير الماضي.. عندما عبر (عن الأمل في أن نجتمع بعد عامين في هذه القاعة لنودع قيادة.. ونستقبل أخرى).. وهو يوجه حديثه لأعضاء البرلمان اليمني.
ولكن أخشى ما يخشاه مراقبو مجريات الأحداث في اليمن، العارفون ببواعثها.. ودوافعها الخفية، أن لا يكون (عائد) هذا المؤتمر.. بملياراته الست وإن أحسنا الظن بها كافياً ومغرياً وجاذباً لأولئك المتاجرين بالأوطان من أصحاب الأصوات العالية، الذين يحسنون تزييف (الباطل).. وإلباسه لباس (الحق)..!!
لكم كنت أتمنى.. لو أن مؤتمر المانحين أشار في بيانه الختامي إلى اجتماع متابعة له في شهر سبتمبر القادم أو قبله أو بعده.. مثلاً، للاطلاع على ما تم وما لم يتم إنجازه من المرحلة الثانية والأخيرة من مراحل المبادرة الخليجية.. فلعل في ذلك ما يطمئن.. أو حتى يغوي هؤلاء لتبلغ المرحلة الثانية من المبادرة نهايتها، فتسعد ملايين الشعب اليمني الصامتة والمقهورة والمغلوبة على أمرها أمام أصحاب المال والجاه الحالمين بـ (السلطة) ولو كانت على (خرابه)..!!
dar.almarsaa@hotmail.com