كنت أتابع فعاليات مهرجان سوق عكاظ بعد غياب طويل عن مدينة الطائف الأثيرة إلى نفسي بذكرياتها البعيدة وأنا تساءل كيف فرطنا بكل هذا الإرث العربي البالغ الثراء في عكاظ وفي غيرها حتى صرنا في مصطلحات بعض المنظِّرين العرب مجرد «أطراف» نائية تعيش على هامش «المراكز» العربية المؤثِّرة..!؟
جاء مهرجان سوق عكاظ في نسخته السادسة، بل ومنذ عامه الأول ليحيي في نفوسنا الأمل في أن تستعيد هذه الجزيرة العربية بريقها الثقافي، فهي مهد شعراء العروبة منذ ما قبل الإسلام، وكل الأسماء الكبيرة التي صنعت تاريخ وأصالة الشعر العربي والخطابة والبلاغة وفنون الأدب في بذرتها الأولى وفي عهودها المجيدة كانت من هنا من هذه الجزيرة العربية مهد العروبة والإسلام.
على أرض هذه الجزيرة كانت أسواق العرب التي لم تكن للتجارة فقط، وإنما كانت أيضا منتديات يلتقي فيها الشعراء والخطباء والحكماء ومتذوقو الشعر وطالبو الحكمة. كانت هناك «عكاظ» و»مجنة» و»ذومجاز» و»دومة الجندل» و»حُباشة» و»هجر» وغيرها من الأسواق التي كان يجري فيها التبادل التجاري والتواصل الثقافي بين قبائل العرب.
لقد غابت هذه الأسواق عن مسرح الحياة والفعل الثقافي والاقتصادي طويلاً طويلاً منذ قرون بعيدة وكان يجب أن تُعاد لها الحياة، فهي شاهدٌ على أصالة هذه الجزيرة العربية وحيوية قبائلها. وقد كانت تلك الأسواق تُعقد في أوقاتها المنتظمة المعروفة للناس في ذلك الزمان البعيد فيرتحلون إليها ويلتقون هناك للتعارف والتواصل والتبادل رغم صعوبات الترحال وقسوة المناخ والجغرافيا.
لكن المدهش هو ذلك الدور الثقافي الكبير الذي لعبته هذه الأسواق في زمنٍ لم يكن للثقافة أي حضور في حياة الكثير من الأمم، فعندما نقرأ تاريخ تلك الأسواق نجد أنها تماثل المؤتمرات والندوات والملتقيات الأدبية والثقافية التي تعقد في زمننا الحاضر. فهي مناسبات ثقافيةكبرى تُقام فيها المسابقات الشعرية، ويقف المُحَكِّمون الكبار من أمثال النابغة الذبياني لاختيار المبرزين من الشعراء، فتُخلع عليهم الألقاب وتطير الركبان بأخبارهم ويصبحون على كل لسان.
لقد أسدى المهرجان الوطني للتراث والثقافة «الجنادرية» خيراً كثيراً للثقافة في هذا البلد وصنع لنا مكاناً ومكانةً على خارطة الثقافة العربية ولازال يعطي الكثير، وقد حان الآن الوقت لتفعيل الأسواق الثقافية الأخرى في بلادنا لتتعاضد جميع الجهود في الارتقاء بالثقافة والإبداع وتتوزع المناشط في جميع أنحاء المملكة؛ فعندما نعود إلى المراجع التاريخية نجد أن هذه الأسواق وُجدت في شرق الجزيرة ووسطها وغربها وشمالها وجنوبها، ومن الضروري أن تُعاد أنشطة تلك الأسواق من جديد لكي تسهم في النهضة الثقافية في بلادنا العزيزة.
لابد من تقديم جزيل الشكر والتقدير لكل الرجال والنساء الذين كانوا وراء نجاح مهرجان سوق عكاظ في نسخته السادسة، فقد أبدعوا وطوَّروا. ويحق لهم ولنا - ونحن نرى ونلمس هذا النجاح - أن نتوقع المزيد في السنوات القادمة إن شاء الله.
alhumaidak@gmail.comص.ب 105727 - رمز بريدي 11656 - الرياض