إنه يناديني،! ركضت مسرعاً باتجاه الصوت الذي قادني إلى مكتب فخم واسع، تربع فيه على كرسيه، ألقيت التحية على استحياء وانحنيتُ لأُقبل يده؛ فسحبها بقوة وبصق في وجهي!
مسحت ما علق من الرذاذ بطرف كمي، وأنا أظن أنه أحقر من أن يفعل ذلك.
وقفتُ صامتاً، فأشار بيده إلى اللوحة التي تعلو مكتبه وطلب مني مسحها وتلميعها. انتهيت من ذلك وعدت إلى عملي.
لم يعاملني هكذا؟ ألم أكن سبباً في وصوله لهذا الكرسي؟
أطرق ملياً بعد أن تأمل مكتبه الذي لم يترك له الوقت مجالاً أن يغير فيه شيئاً سعياً في استرضاء هذا ومجاملة هذا.. والثناء على ذاك.
صوت زجاج تهشم وخطوات متسارعة تتجه إلي، ضرب بقبضته مكتبي فوقفت واجماً فزِعاً ألم أقل لك يا أحمق أن تطلب لي قهوة؟ بلى! فلماذا طلبت لي عصير ليمون؟ أرجو المعذرة منك يا سيدي، لكني لاحظت أن أعصابك متوترة فطلبته لك.
لم يتبق في معجم الشتائم كلمة لم يقلها ثم خرج كالثور الهائج، بعد أن حمدت الله أنها انتهت إلى هذا الحد! سحبت رجلي المتصلبة ومشيت بوهن تجاه دورات المياه لأغسل وجهي الذي بدت فيه آثار الإجهاد والتعب، فأنا منذ الصباح لم أذق شيئاً! رجعت لمكتبي ثم لمت نفسي.. لسكوتي عن حقوقي المهدرة لديه.. حتى خيل إليه أنني أصبحت عبداً أعمل لديه! ماذا أنتظر؟ هل أنتظر أن يطردني من المكتب وأنا أتفرج، لابد من وسيلة لإيقافه عند حده.
رجعتُ لأجد شيخاً كبيراً يرافقه عاملٌ آسيوي، يلبس نظارات سميكة ويمسح لحيته الكثة البيضاء بأطراف أصابعه صافحته فمد يده ودعا لي بالخير والبركة سكنت نفسي وشعرت بالراحة فأنا أرى في هذا الرجل ملامح والدي.. هل أستطيع مساعدتك يا عمي؟ نعم فأنا منذ بضعة أسابيع أراجع هذه الدائرة لتخليص معاملتي وكل أسبوع يعدونني الأسبوع الذي بعده وتعلم يا ولدي أنني أسكن في مدينة أخرى ويشق علي الحضور؛ زوجتي مريضة وأعولُ أسرة كبيرة بما فيهم أبناء أخي المُتوفى! وقلة ذات اليد يا بُني جعلتني شبه عاجز عن تأمين حياة كريمة لهم! أخذت أوراقه وتفحصتها.. وقلت في نفسي المسكين لم يتبق له سوى إمضاء فقط من المدير لكن ماذا لو وبخني مرة أخرى؟ لا يهم، المهم أن أقضي حاجة هذا الرجل الطيب الذي توسم بي خيراً تمتمت ببضع دعوات ودخلت، وإذ به يتحدث بالهاتف أومأ إلي بيده أن ضع الورقة، فوضعتها فوقعها مباشرة تعجبت منه! الحمد لله.. خرجتُ بالبشارة لهذا الرجل الذي دمعت عيناه من الفرح ومسح أثرها بطرف غترته البيضاء التي هي انعكاس لبياض قلبه الطيب.
قال بلهجته: “قل آمين يا ولدي الله يفتحها بوجهك دنيا وآخرة” ياه كم أثلجت صدري هذه الدعوة شعرت بصدقها وبأن أبواب السماء فتحت لها، قبّلت رأسه وشكرته.
جلستُ على الكرسي وأنا مبتهج وبنفسية مختلفة ربما لا أكون حصلت على المال، أو حرصت على جمع ثروة لي أعيش على ما تبقى منها بقية عمري لكنني حصلت على ما هو أعظم؛ إدخال السرور على قلوب الناس وتفريج كرباتهم فلك الحمد يالله أن سخرتني لخدمتهم.