بعد أيام سيمرُّ بالقراء وقفات أمام هذه المناسبة من سيرة الملك عبدالعزيز؛ حيث بنى كياناً فريداً في التاريخ، وأسَّس وحده اتحاداً وطنياً لأول مرة في الجزيرة، بتوفيق من الله، في مسيرة تجشم فيها الصعاب، بدأت منذ دخوله الرياض في يوم 5 شوال عام 1319هـ وقد ترجل عن صهوة جواده

بعد مسيرة 30 عاماً؛ ليتفرغ لدور تنظيم هذه الدولة، التي التف أبناء الجزيرة حولها مستبشرين خلف قائدهم في مرحلة البناء؛ فجمع الله به القلوب، بعدما وفقه الله سبحانه لتحقيق ما كانوا يتمنونه بعد إعجابهم بخصاله، التي منها: الحِلم والأناة والشجاعة والكرم والجود والعدل والاهتمام بإقامة دولة إسلامية في مهبط الوحي ومنبع الرسالة، على كتاب الله وسُنّة رسوله، وغيرها من الخصال التي رُصدت محلياً وعالمياً؛ لما في نظرته الثاقبة من الإخلاص المتميز.

ولد الملك عبدالعزيز بالرياض عام 1293هـ، ونشأ تحت رعاية والده الإمام عبدالرحمن بن فيصل، وتعلم القراءة والكتابة على أيدي كبار مشايخ الرياض، وكان متوقد الذهن، مع ذكاء خارق، وقد بانت عليه النجابة والفطنة صغيراً، حتى رُوي عنه في صغره مخالفته أترابه في اللعب، وبدلاً من أن يقول “مع مَنْ لعب” كان يقول “مَنْ يلعب معي”.

ولما تنازل والده الإمام عبدالرحمن، صاحب الرأي السديد، عن الملك خوفاً ودرأ للفتن غادر الرياض مع الأسرة إلى الأحساء، ثم قطر فالبحرين ثم الكويت، وقد أبرزت هذه الرحلة فيه خصال الفطنة والتطلع للزعامة استرداداً لملك أجداده، وقد هيأ الله له ذلك. وبالمناسبة، فقد أُعجبت بما دار في جلسة حضرتها، وفيها رجالات من مشايخ حائل، وذلك في إحدى الزيارات؛ إذ دار فيها حديث مفيد حول سيرة الملك وشجاعته وبُعد نظره في مشواره لتوحيد البلاد وبناء الدولة، فقال أحدهم حكاية عن قاضي حائل في ذلك الوقت الشيخ الشفدلي، أي وقت مسيرته لتأليف القلوب، إن هذا الشيخ قال لأمير حائل: أيها الأمير، رأيت في منامي أنني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس وعن يمينه الإمام عبدالعزيز ويساره أنت يا الأمير (ويعني به عبدالعزيز المتعب أمير حائل وقتها)، فقرأ النبي هذه الآية {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء} (26) سورة آل عمران، وأشار إلى الإمام عبدالعزيز - رحمه الله - ثم التفت يساراً وهو يقرأ {وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء}، وأشار إليك أيها الأمير، ثم التفت لابن سعود وهو يشير إليه ويقرأ {وَتُعِزُّ مَن تَشَاء}، ثم التفت إليك أيها الأمير وهو يقرأ ويشير إليك {وَتُذِلُّ مَن تَشَاء} آل عمران 26.

فقال له: والله إن أعلمت أحداً وأنا حي لأقطع لسانك بيدي، وإذا متّ فلا عليك إذا أعلمت الناس بها.

فلم يلبث إلا فترة قليلة؛ حيث قُتل في روضة مهنا بالقصيم، فبدأ ذلك الشيخ يحدِّث الناس بالرؤيا.

والملك عبدالعزيز كتب عنه - رحمه الله - الكاتبون كثيراً، وعن سيرته وأعماله في مشواره لتوحيد البلاد، من عرب وأجانب، وعن مآثره الحسنة، ومزاياه وعدله وذكائه وحكمته في تصريف الأمور، وخير من جمع عنه مؤرخان هما أحمد عبدالغفور عطار في كتابه صقر الجزيرة الموسوعي، وهو مجلدان، في كل مجلد أجزاء عدة في طبعته الثانية. والكتاب الثاني لخير الدين الزركلي، الذي يقع في ثلاثة أجزاء، في طبعته الثانية 1397هـ، عن دار العلم للملايين، وعنهما أنقل.

يقول أحمد عبدالغفور عطار نقلاً عن عبدالحميد الخطيب في كتابه (الملك العادل)، عن حادثة نقلها، مضمونها أن جدلاً عنيفاً دار بين الملك عبدالعزيز والسيد خالد الحكيم، حتى قال الملك عبدالعزيز بعد أن اشتد الجدل للحكم وهو من أحد كبار السوريين المشتغلين بالقضية العربية، وممن يعملون للملك عبدالعزيز، وكان السيد عبدالحميد الخطيب حاضراً هذا المجلس، والرواية عنه: “إذاً أنا لا أفهم”، فرد الحكيم: “إنكم تفهمون، ولكني أنا أيضاً أفهم”.

فرأى الملك أن يكتفي بهذا الجدل، وكل ما صنع أنه غادر المجلس في صمت.

وظن الحاضرون أن الملك غاضب، وأشفقوا أن ينجم عن غضبه ما لا تُحمد عقباه بالنسبة للحكيم، وظن السيد الخطيب ومن حضروا أن الملك سوف يقصيه عن القصر، وكانت دهشتهم بالغة أنهم رأوا الأستاذ الحكيم في الليلة التالية يأخذ مكانه والملك يحادثه، وكأنه لم تكن مناقشة بينهما في الليلة السابقة. يقول الخطيب: وكأنما الملك علم بما في نفسي فقال في نهاية الجلسة “الحمد لله يا عبدالحميد أننا قمنا اليوم في تفاهم مع خالد، ونحن يوماً نتفق ويوماً نختلف، والأيام كفيلة بإظهار المخطئ من المصيب”.

وقد كان باب مكتبه مفتوحاً، وكذا مجلسه.

وموطن آخر: عندما خطب أحد رجال ابن سعود البارزين ابنة حجازية من آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعتذر له وليها بأدب، فغضب وأخذ يكيد له، فخشي السيد الحجازي من رجل ابن سعود الخاطب هذا لمكانته أن يزج به في مكروه، فرحل من مكة للرياض، وقابل ابن سعود، وقص عليه قصته، وطلب منه أن ينصفه ويحميه، فوعده خيراً، وطلب إليه أن يحضر من الغد مجلسه العام، فحضر، وكان خاطب ابنته حاضراً، ومكانه قريباً من الملك وكرسيه، وجرى الحديث في الخيول الأصايل، ولعل الملك قصده؛ ليحل المشكلة بأدب، وكان ذلك الرجل من الذين يحسنون معرفة الخيل وأنسابها؛ فأمر الملك عبدالعزيز سايس خيوله بأن يدع الحصان الفلاني يتصل بالفرس الفلانية؛ لتحمل منه، ولم يكن الحصان كفؤاً لتلك الفرس؛ فهو ليس في أصالتها؛ فما كان ذلك الرجل الخاطب يسمع بالأمر يصدره الملك إلا ونهض غاضباً، وعارض أمر الملك عبدالعزيز، ورد عليه بعنف؛ إذ أمر أمراً كهذا، وكيف يأمر بأن يتصل حصان ليس في مرتبة الفرس الأصيلة نسباً، ولو كان أصله أصيلاً، لكنه دون الفرس، وهنا انبرى الملك ورد عليه: إذا كنت تغضب ولا ترضى بأن يكون التزاوج في عالم الحيوان بين غير الأكفاء فكيف تطلب هذا الزواج في عالم الإنسان؟ فأدرك الرجل خطأه، وفهم مقصد الملك، وعرف أنه ليس كفؤاً للسيدة الأصيلة، وإن كان هو أصيلاً، لكن أصالته لا ترتفع إلى أصالة بيت النبوة؛ فاعتذر للسيد والد المرأة فيما بينه وبينه، ثم لابن سعود الذي أكرم السيد وأعانه إلى العودة إلى مكة معزَّزاً مكرماً، وأهداه بذرة من الذهب.

وموقف آخر: بينما كان الملك عبدالعزيز في مجلسه ذات مرة دخلت عليه بدوية لَسِنَة تشكو المحكمة، وذكرت “إن رجلاً كان في أعلى النخلة، وكان زوجي بأسفلها، فسقط الأعلى على الأسفل فقضى عليه، لكن المحكمة رفضت طلبي بالحكم بالقصاص من الرجل الذي قتل زوجي، وأطالب بذلك بإصرار منها”.

ومن فراسة الملك عبدالعزيز وعدله فيما تعتقده حقاً لها؛ حيث أبت كل شيء إلا القصاص، تصدى الملك للقاضي الذي أصدر الحكم وعجز في إقناعها، فتصدى للاثنين (القاضي والمرأة)، وقال:

“حكمت بأن يُقتل قاتل زوجها”. وسكتَ قليلاً، فتهلل وجه المرأة، وأعلنت سرورها، إلا أن الملك عاد إلى الكلام قائلاً للمرأة: تذهبين إلى حيث كان الحادث الآن، وتصعدين إلى النخلة، ويقف الرجل تحتها، وتسقطين عليه، كما سقط على زوجك.

فبُهتت المرأة، وقالت سأموت أنا من السقطة، واقتنعت بأن الذي سقط على زوجها لا يُعَدّ مجرماً متعمداً في إجرامه تحت سيف القصاص، وأثابت إلى رشدها، ودفع الملك عبدالعزيز الدية من جيبه فانصرفت.

وذات مرة قُدِّمت له أوراق حكم فيها القاضي الشرعي بإعدام قاتل؛ للتصديق عليها بالتنفيذ؛ فقرأ الحكم وأنكره؛ فالقاتل المحكوم عليه قاتل حقا، لكنه غير مجرم، وما دام غير مجرم فلا يُحكم عليه بالقتل، فقرأ الحكم والحادثة، وهي أن جندياً تفقد زوجته ففقدها، وأخذ يبحث عنها، حتى عثر عليها بسكن جندي، فداهمه، فإذا الزوجة عنده، فأطلق عليهما الرصاص وقتلهما، وسلم نفسه. وفي المحكمة سُئل فاعترف بالقتل، وحكم القاضي بالقصاص، فلم يستنكر، ولم يعترض، وتقبله فخوراً، بأن ثار لشرفه الجريح، وانتقم من طاعنيه، فلما قرأ الملك عبدالعزيز الحكم تجهم وجهه، وصاح فيمن جاء بها للتصديق والأمر بتنفيذه: “ما هذا الحكم؟”، وأمر بإحضار القاضي وخطَّأه، وأخذ يحاكيه في المجلس العام في حكمه، ولامه على تسرُّعه وغفلته عن ذلك، وسؤاله عن الدوافع للقتل وأسبابه، وقال بصوت جهوري: روى الإمام البخاري في صحيحه أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله لو وجدت مع أهلي رجلاً لم أمسه حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال رسول الله “نعم”، فقال سعد “كلا والذي بعثك بالحق، إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك”، فقال صلى الله عليه وسلم “اسمعوا إلى ما يقول سيدكم، إنه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير مني”.

وكان الشيخ محمد المانع مدير المعارف حاضراً، فأمره الملك بأن يذهب، ويصحب القاضي إلى المحكمة، ويُحضر السجين، ويطلقه بعد مكافأته بكسوة، ومنحة مالية.

وفي حالة اليهود وفلسطين له رأي قصير وجيد، ومنه كما جاء في هذين الكتابين، قال العطار: وإنني على يقين بأن الرئيس الأمريكي روزفلت لم يكن يتوقع أن يرى في ابن سعود الذي طلب مقابلته ما رآه فيه؛ فهو رجل ذو مهابة خارقة، وقوة عظيمة، وُلِد جندياً، وقضى حياته كلها في خوض المعارك التي تلذ له ولكل أتباعه الكارهين لليهود، وهو عربي من أوله وآخره، وفي كل وقت، وقد صدم صدمة عنيفة عندما طلب إدخال عدد من اليهود إلى فلسطين، مبيناً أن عددهم قليل، فقد صُدم صدمة عنيفة بإجابة ابن سعود له، وعلا وجهه العبوس قائلاً: لا. ثم أبان له رفضه على أساس الحقيقة الآتية: اليهود لم يتجمعوا للعمل على ازدهار المنطقة التي يسكنونها إلا بفضل رؤوس الأموال الأمريكية والإنجليزية، التي تدفقت عليهم بملايين الدولارات. ثم قال: لو أن هذه الملايين أُعطيت للعرب لأمكنهم أن يعملوا مثل عملهم أو أحسن. ثم ذكر له الملك عبدالعزيز - رحمه الله - أن هناك جيشاً إسرائيلياً في فلسطين، كامل التسليح، جاهزاً، يريدون به - فيما يعتقد - حماية العرب لا محاربة الألمان، وبكل وضوح لن يسمح العالم العربي لليهود بالتوسع في فلسطين للتوطن في المستقبل.. إلى آخر ما ذكره رحمه الله.

والمحطات في أعمال وآراء وجهود الملك عبدالعزيز كثيرة ومشرفة، ووقائعها وشواهدها كثيرة جداً، وبحمد الله بعدما أفاء الله من بركاته على هذه البلاد فقد حرص أبناء الملك عبدالعزيز ومَنْ تأثر بسيرته وأعماله - رحم الله من مات - على اقتفاء أثره في مرحلة البناء، وفي الإحسان والعطاء “لأن الله إذا أنعم على عبد أحب أن تظهر نعمته عليه”.