يحق لأهل بريدة الافتخار بمدينتهم والبوح بمشاعرهم دون مواربة، ويحق لهم الصدح بتلك المشاعر وتعابير الحب والعشق من فوق منبر عالٍ، لأنهم يعلنون حباً لمدينتهم لا يؤذي غيرهم فهو من أنواع الحب المحمود. حب من تعشقه وتهيم بحبه دون أن تكره سواه. حب انتماء لا تعصُّب وكراهية. تلمس هذا الحب الصادق في عيون أبنائها أينما اتجهت في أنحاء بريدة، وهم الذين يرحِّبون بالغريب ليتعايش معهم، ربما أكثر من احتفائهم بأبناء مدينتهم ومن يشاطرونهم لقمة العيش. لم يركن أهل بريدة لاجترار أسفار الماضي، بل حوّلوا هذا الحب إلى عمل حتى غدت مدينتهم ورشة عمل ضخمة تعجُّ بالمشروعات التنموية في كلِّ شبر من ثرى أرضها. يدهشك البريديون أكثر حينما تعلم بأنّ بعض تجار المدينة قد أصرّوا على إقامة مشروعاتهم أو جزء كبير منها في مدينتهم دعماً لحركة التنمية فيها، دون أن يلتفتوا لمن يرون أنّ استثمار تلك الأموال سيكون أفضل والمردود أكثر لو كان في العاصمة الرياض مثلاً. هذه الثقافة هي السر الذي نقل المدينة من حيّزها المحدود لتتجاوز في نموها مساحات الماضي الضيقة إلى مدينة عصرية مترامية الأطراف تتحرك فيها عجلة التوسع بسرعة هائلة. الغائب عن بريدة من ثلاثة عقود أو أربعة، لا يستحضر من ذاكرته إلاّ معالم بريدة القديمة بأحيائها العتيقة المحصورة داخل دائرة ضيقة، لم يعرف منها جيل التسعينات الهجرية إلاّ العجيبة في غربها تحتضنها رمال الخبوب والعكيرشة على حدود ساقي الرواف في شرقها، وكأنه منتزه المدينة العتيقة المسائي يخرجون إليه للوضوء وتأدية صلاة المغرب على ضفافه، وفي شمالها لا يتجاوزن جفر الحمد، وبالكاد يصلون إلى حدود الصفراء ذات التضاريس الوعرة بصخورها الصلبة، وفي جنوبها يقفون في السادة مطلين من البعيد على الصباخ والتي تبدو كقرية صغيرة منزوية في مكان قصي، قبل أن تلتهمها المدينة الحديثة بزحفها السريع، مثلما التهمت قرى وضواحي كانت خارج الدائرة مثل الشقة ورواق والنقع، وفي وسط المدينة القديمة تستحوذ الجردة على كل المساحة بأسواقها القديمة وحوانيتها الصغيرة وهي منطقة مركزية تمثل شخصية بريدة آنذاك، فلا يجرؤ أحد من روّادها على كسر الأعراف والتقاليد أمام هيبة كبار أهل البلد المنتشرين في كل زاوية، فويل لمن تسوّل له نفسه بالمجاهرة بالتدخين في أزقّتها أو أمام محلاتها، حيث ينظرون لمن يشرب المخزي، هكذا يصفون التتن أو الدخان، بأنه عاصٍ لله ولرسول. وهذه النظرة ظلّت مسبة لأهل بريدة إلى وقت قريب من البعض، لكن المدركين للأمور يرون في عمقها كل الصواب من أولئك الرجال الذين يرون في شربه خطراً على الصحة وقتلاً للنفس، وسبقوا بحسِّهم العالي منظمة الصحة العالمية التي دشنت حملاتها بعد عقود لمحاربة التدخين، وبعد خمسين سنة من حرب أهل بريدة على التتن، توجّهت معظم ولايات أمريكا لمنعه في الأماكن العامة.
بريدة اليوم مدينة عصرية تمتلك مقوّمات المدينة المتكاملة، فمن يعيش فيها لا يحس بأنه ينقصه شيء لتكامل الخدمات الحياتية، وسوق بريدة فيه من كثرة المعروض ما يغني ساكنها بل إنه أصبح مركز استقطاب للتجار من المناطق الأخرى ومن دول الخليج، ومجالس بريدة يتقاطر إليها سكانها بمختلف أطيافهم الفكرية دون تمايز يتفقون ويختلفون وهي صفة تنفرد فيها بريدة في سباقها مع الزمن.
Shlash2010@hotmail.comتويتر @abdulrahman_15