نيودلهي - استر دايسون - خاص الجزيرة:
بدءًا بحفل افتتاح دورة لندن للألعاب الأوليمبية، أمضيت الأسابيع القليلة الماضية أتأمَّل في التاريخ وأنفق الوقت في اجتماعات مع أشخاص يحاولون التكهن بمستقبل وسائل الإعلام الجماهيرية - ووسائل الإعلام الاجتماعيَّة، والصحة والرِّعاية الصحيَّة، والسَّفَر إلى الفضاء.، ثمَّ دُعيت عن طريق الصدفة إلى ملء استبيان لصالح دراسة استقصائيَّة عن المستقبل. متى نتعلم كيف نعالج السرطان؟ ومتى يموت آخر شخص بالملاريا؟ ومتى تشكّل السيَّارات الذاتية القيادة التيار السائد؟ومن دون قصد (أو على الأقل من دون الإشارة إلى هذا)، سلَّطت الدراسة الضوء على التمييز بين التعرف على كيفية القيام بشيء ما وبين القيام به فعليًّا في العالم ومن أجل العالم. على سبيل المثال، حالات مثل السمنة وسوء صحة الأسنان (ما عليك إلا أن تبحث في جوجل عن «تأثير صحة الأسنان على الصحة العامَّة»)، ليست قابلة للعلاج فحسب؛، بل إن منعها أمر ممكن أيضًا. وبالرغم من هذا فإنَّ مثل هذه الأمراض منتشرة وتُؤثِّر على عدد أكبر من النَّاس مقارنة بالسرطان، أو الملاريا، أو غير ذلك من الأمراض الأكثر «شهرة».
وربما لو فكرنا بنظرة أبعد لكنا نعمل على توجيه قدر أعظم من الاهتمام وتخصيص المزيد من الموارد لاتِّخاذ تدابير منع الأمراض، وتعزيز التَّعليم، والخدمات العامَّة القادرة على رفع الإنتاجيَّة الكلية. والمشكلة هنا أن استخدام التكنولوجيا ليس مسألة قدرة في كلِّ الأحوال؛ بل إن الأمر يشمل أيضًا الضرائب والإنفاق العام، فضلاً عن المفاضلات والتفكير في الأمد البعيد.
ولنتأمَّل هنا السيَّارات الذاتية القيادة أو طائرات الركاب الموجهة عن بُعد. تُرى هل تكون الغَلَبة للبيانات العلمية، التي تبيّن أن السيَّارات الذاتية القيادة والطائرات الموجهة عن بعد (بمُجرَّد الوصول بها إلى مرحلة الإتقان) تصبح أكثر أمانًا من السيَّارات أو الطائرات التي يقودها البشر، على الثقافة السائدة والقوانين القديمة وغير ذلك من العراقيل؟
بادئ ذي بدء، إذا وقَّع حادث لسَيَّارَة ذاتية القيادة (وسوف يحدث هذا لا محالة)، فعلى كاهل من تقع المسؤولية؟
باختصار، على الرغم من اعتمادنا على العلماء والمهندسين لاختراع الأشياء، فإنَّ شريحة أوسع كثيرًا من المجتمع هي التي سوف تقرّر ما إذا كانت هذه الأشياء قد تنتشر على نطاق واسع وكيفية دفع ثمنها.
وعلى نحو متزايد، أصبح التقدم التكنولوجي يعتمد على هذا الاستعداد الاجتماعي؟
يرجع جزء من عزوفنا هذا إلى أننا لا زلنا نشعر بعدم ارتياح إزاء السماح لآلات باتِّخاذ القرارات - وبالرغم من هذا فهناك بالفعل العديد من القرارات التي يتعين علينا أن نتخذها بأنفسنا. ففي عالمنا البشري، تعني المعرفة والقدرة ضمنًا بعض المسؤولية: إذا كنت متين البنيان ورأيت شخصًا أمامك يسير في اتجاه سَيَّارَة قادمة، فأنت مسؤول عن سحب ذلك الشخص إلى الأمان. ولكن في عالم حيث أصبح بوسعنا أن نعرف ماذا يحدث في كلِّ مكان طيلة الوقت، فكيف يكون قدر المسؤولية التي نشعر بها - أو التي تثقل كواهلنا؟ لقد بدأ العديد من النَّاس ينسحبون بالفعل. والعالم عامر بالكثير من المشكلات.
لذا، فبالنسبة للأفراد على الأقل قد تكون القيود الشخصيَّة مفيدة، وليست مقيَّدة فحسب إذا استخدمناها بالشكل اللائق. على سبيل المثال، أي المشكلات التي ترى أَنَّك مجهز بشكل شخصي للتعامل معها؟
قد تكون أموالك مفيدة بقدر أموال أي شخص آخر، ولكن نصيحتك أو مشاركتك سوف تكون أكثر قيمة عندما تركز على مشكلة بعينها أو مجال ما تتمتع فيه بخبرة أو اهتمام فريد، كمرض معين أصاب والدتك على سبيل المثال، أو الافتقار إلى فرص التدريب في مجال عملك. في عالم مقيد، قد توجه مثل هذه الاعتبارات اختيارك لمهنتك؛ وفي عالم غير مقيد، فمن الممكن أن توجه نفس الاعتبارات مهمتك الشخصيَّة.
ينبغي لِلنَّاس أن يتمتعوا بالحرية إلى أقصى حد ممكن فيما يتصل بملاحقة مهمتهم الخاصَّة - مثل الحشد المتخبط من المؤدين في حفل افتتاح دورة الألعاب الأوليمبية الأخيرة (مقارنة بحفل افتتاح دورة الألعاب الصينية في عام 2008م، الذي اتسم بالتزامن الكامل).
في نهاية المطاف، ينظم هؤلاء الأفراد أنفسهم ذاتيًا من أجل خلق صناعات جديدة تمامًا، هيئة الصحة الوطنيَّة، وموسيقى رائعة، بين أمور أخرى.
ولكن بالنسبة للمجتمع ككل، هناك عدد أقل من القيود التكنولوجية لتوجيهنا إلى ما يمكننا القيام به - أو منعه. وسوف تكتشف الدول على نحو متزايد أن أولوياتها لا بُدَّ أن تعكس مشاعر عامة عريضة وليس مشاعر النخبة الحاكمة فحسب. ولكن كافة أشكال البشر قد يستسلمون لإغراء إجراء مفاضلات ضارة، سواء في مقابل متعة زائلة أو سعيًا وراء «الجاذبية الجنسية» على حساب القيمة الحقيقية.
على سبيل المثال، ما المفاضلات بين مصادر الطاقة النَّظِيفة والتنميَّة الاقتصاديَّة - وهي قضية كبيرة في الهند والعديد من الدول الأخرى؟ فقد يرغب الأغنياء في أن تظل السيَّارات باهظة الثمن ولا يشاركهم فيها أحد، وهذا يصب في مصلحة آخرين ربَّما يخافون من السيَّارات الآلية.
وبصورة أكثر عمومًا، كيف يمكننا التوصل إلى الإجماع حول مهمة عامة، وكيف نتخذ القرارات إن لم نكن قادرين على اتِّخاذها؟ إن ترك القرارات لنخبة لا تهتم إلا بمصالحها ليس بالحل الجيد، ولكن هذه أيضًا حال تصويت القاعدة العريضة (الحالي): فمن السهل أن تتأرجح ميول النَّاس وقد لا يفهمون القضايا بالشكل اللائق، وقد يكون توجههم نحو مصالحهم في الأمد القريب.
وفي العديد من الحالات يتسبب هذا في دفع الدول والجماعات إلى التركيز على مصالح ضيقة، على سبيل المثال، من خلال تقييد المساعدات الأجنبية - أو بالتركيز على المساعدات عندما تكون الاستثمارات قادرة على تحقيق نتائج أفضل.
والحل الأساسي هنا يتلخص في تحسين التَّعليم، حتَّى يصبح قسم أكبر من المواطنين مطلعين بالقدر الذي يسمح لهم باتِّخاذ قرارات مبنية على حقائق، في حياتهم الشخصيَّة والعامَّة. فعندما نبدأ في فهم كيفية تكوين نماذج المناخ (وليس من دون تدخل سياسي)، فسوف نبدأ أيضًا في فهم كيفية تكوين نماذج الاقتصاد - ومعها المفاضلات التي نواجهها. وليس الأمر أن كل شيء يمكن تلخيصه في سعر ما - شهرين من حياة الجد خوان في مقابل أربعة أعوام من ذهاب أليس الصغيرة إلى المدرسة -، بل إن حتَّى القرارات القائمة على قيم غير نقدية تؤدي إلى تكاليف وعواقب حقيقية.
والأمر الأكثر أهميَّة على الإطلاق هو أننا عندما نصبح أفضل في تكوين النماذج فسوف نكتشف مدى القيمة التي يمكننا خلقها (وكم التكاليف التي يمكننا تجنبها) من خلال الإنفاق الآن من أجل خلق مستقبل أفضل.
ولعل أكبر التحدِّيات الثقافيَّة - القيمية على الإطلاق يتخلص في التفكير القصير المدى. ففي مختلف أنحاء كوكب الأرض، نقترب من نوع ما من الفردية، حَيْثُ تغازل الأسواق طبائعنا الأساسيَّة القصيرة الأجل، فتعرض علينا الإشباع الفوري والدَّمَار في الأمد البعيد.
أما التَّعليم فإنَّه يفعل العكس تمامًا. فهو يمكننا من تحسين نصيبنا ببناء الأشياء - باستخدام النار والحطب أولا، والآن أجهزة الكمبيوتر والآلات - للتغلب على قيودنا المادِّية وخلق التكنولوجيا من أجل تمديد وتحسين حياتنا. ولكن هل تكون الغَلَبة للتكنولوجيا والتعلم، أم أن نقاط ضعفنا الحساسة التي تطورت على مدى فترة طويلة من الزَّمَان قد تتغلب علينا؟
(*) استير دايسون الرئيسة التنفيذيَّة لشركة EDventure للاستثمارات، وهي مستثمرة نشطة في مجموعة متنوّعة من المشروعات البادئة في مختلف أنحاء العالم. ومن بين اهتماماتها تكنولوجيا المعلومات والرِّعاية الصحيَّة والطيران الخاص والسَّفَر إلى الفضاء.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2012.
www.project-syndicate.org