عدة مستجدات مهمة في الشهر الفائت استوقفتني طويلاً أفكر بتساؤل متفائل، وأتذكر حكمة والدي -رحمه الله- كان مرجعي حين تواجهني المستجدات الشخصية والسياسية والمجتمعية متطلبة تفسيرات ترضى العقل مثلما تطمئن الوجدان. أتذكر طفولتي في البحرين، حيث كان رحمه الله ينهانا عن «التحريف» و»التخريف» المنتشر في المجتمع الأمي، مصححاً حين نعود من المدرسة متسائلين عن الفرق بين المذاهب وهل صحيح ما سمعنا من زميلات المدرسة أن التابعين لهذا المذهب أو ذاك مآلهم النار لأنهم ليسوا مسلمين؟.. كان يصحح لنا رؤيتنا أن كل من يشهد «أن لا إله إلا الله سبحانه وأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو رسول الله»، هو مسلم.. وأن قرار الجنة والنار ليس في يد أيٍّ من عباد الله، بل هو قرار الله وحده، لأنه الأعلم بحقائق النيات والأفعال.. كان ذلك التصحيح والتوضيح والتأكيد يريحني جداً، إذ لم تكن تسعدني احتمالية أن بعض زميلاتي وجاراتي وصديقاتي سيذهبن إلى النار لأنهن ولدن بمذهب مختلف!.
عاش والدي طفولته في مجتمع متعدد الديانات والمذاهب والتوجهات بين الحكمة والتطرف؛ فأدرك معنى أن يكون مسلماً حقاً يثمن التعايش، ومؤمناً يرفض أيّ تفسير متحيز يلوي معنى الآيات ليبرر رفض الآخرين، ومواطناً يرى واجبه أن يساهم في البناء، ومتعلماً تهمه توعية الآخرين فيفتتح مدرسة حديثة ليعلم غير القادرين، متطوعاً ومتخصصاً يثق به الجميع، يعهد إليه ولي الأمر أن يترأس أول مجلس لصياغة الدستور. كان يؤكد: «لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت».
حين قرأت عن تفاصيل انعقاد مؤتمر التضامن الإسلامي في مكة المكرمة بشهر رمضان الفضيل.. عادت هذه التفاصيل وكثير غيرها من ذكريات مواقف التباسات الآخرين حول المذاهب تكفيراً للمختلفين عن فئتهم وتأكيداً خاطئاً لموقف الله من حامليها. ودعوت للمؤتمر بأن ينجح في تطبيق توصياته ويصحح من مواقف الأفراد من غيرهم المواطنين في الدول الإسلامية.
كذلك سعدت بتأسيس المركز الفقهي للمذاهب الإسلامية في الرياض، حيث قلب الوطن النابض يقرر صحة نبضات الوطن كله. وفي حواراتي اللاحقة حول الموضوع مع الأصدقاء والصديقات الأكثر وعيا وتواصلا بالعالم الأوسع تمددت آفاق السؤال الجذري: لماذا تحديد المذاهب؟ لم لا نترك أمر علاقة الفرد بربه خياراً شخصياً يثاب ويعاقب عليه الفرد يوم الحساب. إلا أن يتسيس الانتماء المذهبي منحرفاً لتحريض الفرد إلى التحيز مع أو ضد غيره من المواطنين، أو يؤلبه للاستجابة للتحريض على العنف والتخريب والإرهاب فذلك شأن وضعي بحت ويجب تجريمه رسمياً والتعامل معه كجريمة ضد المواطنة واستقرار الأمن في الوطن.
جاء الإعلان عن كشف مخططات الخليتين الكامنتين وعاد التساؤل إلى تمحيص الوعي والمنطق: خلايا متكتمة ومستترة يستعد أفرادها في الظلام وينتظرون أوامر «القاعدة» لينفذوا تعليمات التدمير والتخريب والموت.. يقفز في ذهني سؤال جذري: على أيّ أساس يتقبل هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم «مؤمنين» موقفهم المناقض للتعليمات السماوية الواضحة ألا تقتل النفس إلا بالحق؟.. وألا تزر وازرة وزر أخرى؟.. إنه لموقف لا يمكن تبريره وتفسيره إلا بليّ عنق كل التعليمات الواضحة من حيث ما هو المرفوض قطعياً! كيف إذن يعتبر تنفيذ أوامر إرهابية بتدمير مرافق ومؤسسات الوطن وقتل المواطنين الآمنين فعلاً إيجابياً يكافئه الله؟.
رحمك الله يا والدي؛ صدقت حين قلت: المتطرف لا يتقبل إلا تفسيراً محرفاً يحلل له أفعاله المشينة.. المشكلة أن يغلق العاقل عقله كي لا يوضح له عدم منطقية ما يرى.