رحم الله الدكتور غازي القصيبي؛ فقد سبق عصره بتلمس حاجات المجتمع الإنتاجية التكافلية؛ مثلما اكتشف؛ من قبل؛ حاجات الاقتصاد التنموية والصناعية التي بتنا نجني ثمارها اليوم. وُوجِهَ بعاصفة من النقد والتجريح لأفكاره التنموية؛ وكذلك هم المبدعون الذين سبقوا عصرهم، فلم يجدوا من إبداعاتهم إلا النقد والتقريع.
«الأسر المنتجة» كانت إحدى إطروحات الدكتور القصيبي الموجهة لمعالجة أزمة البطالة؛ ولتنمية المجتمع؛ ولترسيخ مبدأ التكافل؛ أذكر أن تجهيز الولائم المنزلية ؛ وافتتاح المقاهي والمطاعم النسوية؛ كانت ضمن أفكاره غير المرحب بها آن ذاك. يبدو أن الأفكار (التغريبية) التي حُورِبَ بسببها باتت مطروحة في المجتمع السعودي المحافظ؛ بعد أن أثبتت جدواها الاقتصادية والتنموية، مع محافظتها على قيم المجتمع وكرامة الأسر والعاملين فيها.
في مدن القصيم الرئيسة نجد اهتماما غير مسبوق بدعم الأسر المنتجة؛ وتهيئة الظروف المناسبة لها؛ وفتح قنوات التدريب والعمل للأيدي العاملة النسوية التي لم تعد تبحث عن الوظيفة المُقيدة؛ بل تسعى جاهدة لتعلم الحرف أو المساهمة في مشروعات تجارية صغيرة تنطلق بها، من المنزل إلى عالم «القصيم» الرحب.
هناك اهتمام كبير بدعم المعاهد التدريبية؛ والجمعيات التعاونية من أبناء القصيم؛ وعلى رأسهم رجال وسيدات الأعمال؛ بعض سيدات الأعمال يرفضن تصنيفهن (المالي) المرتبط بالملاءة والثراء؛ ويجدن في مسمى (متطوعة) لذة وعظمة؛ كالسيدة «أم غسان» المسؤولة عن مقهى «حرفة» النسوي؛ والداعمة للأنشطة الإجتماعية في «بريدة»، التي تصر دائما على مناداتها بـ(المتطوعة) لا سيدة الأعمال.
اطلعت على تجربة الجمعية التعاونية النسائية متعددة الأغراض بمنطقة القصيم «حرفة» وهي تجربة ثرية في دعم الأسر المنتجة وتوفير سبل التدريب ومراكز الإنتاج والتسويق. وفرت «حرفة» وظائف كريمة للنساء والفتيات، ودعمت تدريبهن ونقل الخبرات الحرفية بين الأجيال لضمان الاستمرارية؛ من خلال تحويل الحرفية إلى مدربة لتدريب الجيل الثاني؛ استباقا لفترة العجز والتوقف عن العمل.
«حرفة» نجحت في تحقيق أربعة أهداف رئيسة؛ دعم الأسر المنتجة في القصيم وبما يدعم اقتصاديات المجتمع؛ نقل التراث السعودي وتوثيقه بين الأجيال؛ وخلق طلب مستمر على منتجاته؛ وإيجاد قنوات تمويل للحرفيات. وألحقت بها أهداف أخرى تعاونية ومنها تنمية الأسرة؛ تطوير منازل الحرفيات؛ وتيسير الحج لهن؛ واستثمار بنات الحرفيات لإكسابهن صنعة حرفية تقيهن العوز مستقبلا.
تجربة حرفة ليست الوحيدة في القصيم فهناك تجارب مؤسسية أخرى في معظم مدن القصيم؛ وتجارب فردية؛ كتجربة «أم خالد» الرائدة المتخصصة في تجهيز ولائم المناسبات؛ لم تكن «أم خالد» لتنجح لولا الدعم من أهالي القصيم أنفسهم الذين باتوا يعتمدون عليها في توفير أصناف الطعام (القصيمي) لمناسباتهم الخاصة؛ وعلى رأسهم أمير المنطقة الأمير فيصل بن بندر بن عبدالعزيز، ورجال المال والأعمال؛ وبعض الفنادق الكبرى؛ وهو جزء من الدعم المستحق لمكونات المجتمع.
هناك شبه إجماع بين المنخرطات في العمل التطوعي على أن الأميرة نورة بنت محمد بن سعود؛ رئيسة مجلس إدارة «حرفة»؛ تقف خلف إنجاح مشروع «الأسر المنتجة» في القصيم؛ ويرجع لها الفضل بعد الله في دعم المتطوعات في العمل التعاوني، وتذليل الصعوبات أمام مشروعاتهن الطموحة، وبما يعود بالخير على المجتمع. بقي أن أقول إن تجربة «حرفة» الناجحة في القطاع النسوي يجب أن تمتد إلى مناطق المملكة الأخرى، ومدنها؛ وأن تُستنسخ بمكوناتها الجميلة في قطاع الشباب؛ فهم في أمس الحاجة لتوثيق تراثهم؛ والانخراط فيه.
f.albuainain@hotmail.com