احتدم جدل كبير حول خبر فصل 170 معلمة للغة الإنجليزية من إحدى الجامعات السعودية الحديثة بهدف إحلال أجنبيات بدلاً عنهن، وتذكر وسائل الإعلام أن الشركة عرضت على بعضهن العمل في جامعات الحدود الشمالية إذا ما رغبن الاستمرار معها. وقد نفت مسؤوليتها عن ذلك،
وكررت المديرة حرصها على توظيف السعوديات.. ولم تذكر أي من وسائل الإعلام اسم الشركة التعاقدية التي أقدمت على الفصل وكالعادة تم التكتم على اسمها مما جعل اللوم يوجه للجامعة، الجهة المعروفة وغيّب جزء مهم من المعلومات لتحل الإشاعات مكان الأخبار الموثوقة. الأمر في ظاهره بسيط، ولكنه ينطوي على أمور كثيرة ذات صلة بهذا الموضوع قد تفوقه أهمية، ولعل أولها هو الجدل القائم بين الكفاءة والمواطنة في الوظيفة؛ وثانيها يتعلق بانعدام التخطيط في التوسع بإنشاء جامعات جديدة؛ وثالثها يتعلق بطبيعة تدريس اللغة الإنجليزية ذاته والمفاهيم الخاطئة المتداولة حوله.
فالبعض يرى أن المواطن أحق بالوظيفة أيًا كان الوضع خصوصاً في ظل البطالة المتفشية بين حملة الشهادات الجامعية والعليا والذين اتضح أن تأهيل البعض منهم أقل من المطلوب بسبب التراجع النسبي لمستوى بعض الجامعات الوطنية والخارجية التي خرجتهم. وهنا تتضح الحلقة المفرغة التي تربط بين مخرجات التعليم ومدخلاته، فما يخرجه التعليم يعود عليه لاحقاً. ويتفق الكاتب مع هذا الرأي جزئياً لأنه، إذا تساوت كل الأمور، أهل الوطن أولى بخيراته، والعربي أولى من الأجنبي.
أما البعض الآخر فيرى ألا مجال لمجاملة المواطن في الوظيفة التعليمية، لطبيعتها وأهميتها، وأن البقاء فيه للأصلح.. وبعد سنوات طويلة من العمل في المجال التعليمي، ومعايشة أوضاع تم فيها فعلاً توظيف مواطنين بشهادات وتأهيل متدنيين، والملاحظة المباشرة لما سببوه من إرباك وخفض لمستوى العملية التعليمية، قد يرجح الفرد الرأي الثاني أيضًا، وعلى وجه الخصوص إذا ما لجأ البعض منهم للفهلوة الأكاديمية، أو الواسطة الوظيفية وشغل وظائف قيادية تتخذ قرارات مصيرية تزيد العملية التعليمية تقلباً وارتباكا، فكما هو معلوم شغل السعودي للوظيفة العامة لدينا يشبه الزواج الكاثوليكي لا انفكاك منه إلا بالتقاعد، ولا يمكن الاستمرار في استدامة الوضع التعليمي المتردي لدينا إلى مالا نهاية. وللتغلب على هذه المعضلة لابد من تشديد معايير التعيين في الجامعات.
الأمر الثاني يتعلق بتكليف جهات خارجية، ومن القطاع الخاص تحديدًا، بمهمات تدخل في صلب العملية الأكاديمية المتخصصة فيما يسمى بالتكليف الخارجي out sourcing، وتكون عادة جهات ربحية وغالباً تفتقد للخبرة المتخصصة المطلوبة التي يفترض أن تتوفر للجامعة المتعاقدة لأن الموافقة على البرامج تكون عادة مشروطة عادة بتوفر الكوادر، وليس العكس. ويبدو الوضع هنا غريباً جداً ومعكوساً، فالجهة الأقل خبرة تتعاقد لجهة أكثر خبرة. وما حدث في جامعة نورة، في رأي الكاتب، وما حدث في السنة التحضيرية لكثير من الجامعات ومنها جامعة كبرى عريقة هو اتباع أسلوب التكليف هذا للاستعجال، أو لتوفر المال، أو لمبرر الخوف من الفشل والتنصل من المسؤولية. ففي إحدى الجامعات، التي لجأت لهذا الأسلوب، توجد كلية للغات بها وحدة ضخمة لتدريس اللغة الإنجليزية يعمل بها عشرات من الدكاترة السعوديين الذين ابتعثوا للدراسة في هذا المجال تحديداً.. وتم تكليف أحد الناشرين المحليين، كان يعتمد على الكلية ذاتها في كل ما يخص اللغات الأجنبية بتولي تدريس اللغة الإنجليزية في الجامعة مقابل عقد مبلغ كبير يسمح بصرف رواتب كبيرة للمدرسين المتعاقد معهم لم يكن ممكنا صرف مثلها لمدرسي اللغة على ملاك الجامعة.
ونسمع أن الكلية التحضيرية لم تلمس النتائج المتوخاة من ذلك توفر الخبرة الكافية لدى الجهة الخاصة، وأدى ذلك لتفشي وضع يشبه البطالة لمدرسي اللغة الإنجليزية في وحدة تدريس اللغات في الجامعة، فغادر معظمهم لجهات خارجية، وممارسة أعمال إدارية.
والحل المقترح لهكذا إشكال هو بالطبع حصر الوظيفة بقدر الإمكان في الكوادر السعودية مع الحرص على رفع مستوى تأهيل المعلمين بدورات تدريبية خاصة على رأس العمل.. وإيقاف جميع عمليات التكليف الخارجي في أي من الأمور التعليمية والأكاديمية، فالجامعة التي لا تستطيع تنفيذ برامجها بنفسها يجب ألا تقدم هذه البرامج.. ولكننا، وللأسف، وفي مواجهة تحدي استيعاب الشباب في الجامعات، توسعنا في إنشاء جامعات كثيرة حكومية دون التأكد من توفر الكوادر التعليمية، وعلى افتراض توفير الكوادر المتخصصة لاحقاً.. إلا أن الواقع يوضح أن عدد الكوادر التعليمية المؤهلة في معظم المجالات وعلى وجه الخصوص، مجال تدريس اللغة الإنجليزية، محدود جداً ليس في المملكة فحسب، بل وفي المنطقة والعالم، حيث تتنافس دول العالم بما فيها الجامعات الخليجية والإقليمية على استقطابها، وهي تذهب لمن يدفع أكثر.. وعليه فقد دعت الضرورة للتنازل عن معايير جودة التعليم للتغلب على هذا الإشكال.
أما فيما يتعلق بتدريس اللغة الإنجليزية ذاته، والذي يساء فهمه في معظم السياقات، فهو مشكلة ليس بالنسبة لنا فقط ولكن بالنسبة للدول التي لغتها الأولى الإنجليزية. وقد سبق وقامت صحيفة “القارديان” البريطانية، مثلا، باستطلاع حول تفضيل كثير من الناس أن يدرس أبنائهم معلمين لغتهم الأولى الإنجليزية، وذكرت الصحيفة، بعد استقصاء، أنه لا يوجد لذلك أي سند علمي، وأنه مجرد دعاية لحصر الوظائف في هذه الجنسيات.. والمعلوم أن هذا الاشتراط الانطباعي في حقيقته يقف خلف محاولة تغيير الكوادر المحلية للحصول على كوادر لغتها الأم الإنجليزية عبر جهات تعاقدية. فإدارة الجامعة التي أوكلت تدريس اللغة لجهة خارجية باشتراط أن تكون جنسيات المدرسين من دول ناطقة باللغة الإنجليزية بصرف النظر عن خبرتهم أو قدرتهم، ادركت فيما بعد عدم جدوى ذلك. والحقيقة أن المشكلة في تدريس اللغات في جامعاتنا ليست في مجملها قضية تدني تأهيل من عملوا فيها فقط، بل في ظروف التدريس ذاتها التي تكاد تكون مستحيلة. فمعدل الدارسين بالنسبة للمعلم متدن، ولا يتبع المعايير العلمية. فمدرس اللغة مطلوب منه تدريس 18 ساعة على الأقل ولصفوف وصل عدد الطلاب فيها في مرحلة ما إلى 75 طالباً في الصف! أما الطالب الذي نرسله لبريطانيا أو أستراليا مثلاً، وندفع رسومه بآلاف الجنيهات أسبوعياً، فيدرسه مدرس لغة مرتاح بواقع ست إلى تسع ساعات أسبوعياً، ويتراوح عدد الطلاب بين 6-13 طالباً في الصف. فالذي يحدث عندنا هو أننا نقبل في الجامعات أكثر من طاقتها الاستيعابية، ثم نداري ذلك بتوسيع الشعب والتساهل في مستوى المخرجات.
وتدريس اللغة ذاته ومستوى الإجادة فيه أمر نسبي، فالذين يمتلكون تأهيلاً وتمكناً من اللغة الإنجليزية ولديهم القدرة على المخاطبة والكتابة الصحيحة بها قلة حتى بين حملة الدكتوراه في هذا المجال، ومن تأهل تأهيلاً عالياً فذلك لجهود ذاتية وليس للتعليم والتدريب الرسمي سواء في الداخل أو الخارج. ولذا فيجب أولاً وقبل كل شيء تحديد مستوى التأهيل اللغوي المطلوب، والمجالات التي بها حاجة فعلية لها، ثم التخطيط للوصول له بما يضمن التأهيل المطلوب والحفاظ على الموارد. فالإعداد العام في مجال اللغة مكلف جداً من حيث الوقت والجهد، وعليه يحبذ أن يأخذ منحى تصاعدياً، بحيث يكون عاماً في البداية ومتخصصاً فيما بعد، فيما يسمى بتدريس الإنجليزية لأهداف خاصة. ولكن تعليم اللغة الإنجليزية لدينا يخلط أحياناً بين الأهداف نتيجة لانعدام التخطيط. وسوء الفهم أيضاً يربط بين التقدم العلمي واللغة الإنجليزية، وهو أمر صحيح في جوانب ومبالغ فيه من جوانب أخرى، فنسبة من يجيدون الإنجليزية لدينا يفوق نسبتهم في ألمانيا، والصين، وفرنسا وغيرها ولكنهم متقدمون أكثر منا، فالعلة ليست اللغة. فلابد من دراسات دقيقة لتحديد الحاجات الفعلية من اللغة الإنجليزية ليس من حيث الكم والعدد ولكن من حيث الكيف والمستوى. فتعليم اللغات مكلف جداً.. ومن المؤسف حقاً أن من ابتعثوا في هذا المجال تركوه عرضة لاجتهادات غيرهم.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif