يسألونني كثيراً: لماذا لا يرد عليك الفقهاء المعتبرون إن كان لديهم حجة، أو يتجاوب معك المسؤولون والعلماء في نفيك القاطع بالحجة والدليل والواقع لربوية النقود المعاصرة؟ فقلت اسألوا د. سيملويس؛ فعنده الخبر اليقين.
د. ايجنز سيملويس طبيب نمساوي عاش قبل قرن ونصف القرن حياة شريفة، قضاها مكافحاً في إقناع قومه لإنقاذهم من الموت بالالتهابات الجرثومية بسبب عدم تعقيم الدكاترة أيديهم قبل التوليد والعمليات الجراحية.
ففي القرن الثامن عشر الميلادي كانت المستشفيات في النمسا مقصلة للأمهات اللاتي يلدن أولادهن فيها بسبب حمى النفاس، وكذا كان الوضع بالنسبة لمن يضطر لإجراء عملية جراحية في هذه المستشفيات. وفي عام 1847م كانت نسبة موت الأمهات بحمى النفاس في «مستشفى فيينا العام» في الجناح الأول قد بلغت أكثر من 18 %، بينما تبلغ 4 % في الجناح الثاني من المستشفى؛ ما جعل د. سيملويس الذي كان مشرفاً على الجناح الأول أن يتساءل عن السبب. وبعد تأمل وتفكر أمر سيملويس جميع الأطباء بأن يغسلوا أيديهم قبل العمليات بكلور الجير، الذي كان أفضل مادة تُستخدم آنذاك لإزالة رائحة الموت. وكانت النتيجة قاطعة؛ فقد نزل معدل الموت إلى الصفر؛ فخلص د. سيملويس إلى أن كلور الجير يقضي على الجراثيم التي كانت تنتقل عن طريق أيدي الأطباء.
لم يُعجب الاكتشاف المجتمع الطبي آنذاك؛ فهذا معناه أنهم كانوا هم قتلة الأمهات والجرحى لعشرات السنين؛ فرفضوا نتائج د. سيملويس، وقاموا بطرده، بل عادوا إلى عادتهم في عدم غسل أيديهم قبل العمليات بالكلور؛ فعاد معدل الموت مرة أخرى إلى وضعه السابق. ومع كل هذه الدلائل القاطعة وخطورة الأمر إلا أنهم استمروا معاندين ورافضين لبحوث د. سيملويس، رغم أن معدل الموت الكبير كان شاملاً لكل مستشفيات النمسا. وهناك، وفي تلك الفترة، وفي المؤتمرات الطبية خُطِّئت أبحاث د. سيملويس، بل هوجمت ورُفضت فلم تُقبل رغم وضوح البينة، بينما وُزّعت الجوائز على المهاجمين، وكُرّم أشخاصٌ ومنظمات رفضوا وأهملوا أبحاث سيملويس.
حاول د. سيملويس رفع صوته، وأرسل إلى البرلمان وإلى هنا وهناك فلم يلقَ إلا آذناً صماء وتجاهلاً تاماً، ثم ما كان منهم عندما أكثر عليهم وطال صوته إلا أن أودعوه مستشفى الأمراض العقلية فمات هناك بعد أسبوعين، قيل ضرباً، وقيل بسبب التهاب في جرح حصل له، ولم يتمكن من تعقيمه، لرفض فكرة التعقيم آنذاك، التي مات سيملويس من أجلها.
واليوم أصبحت المستشفيات والإنجـــازات الضخمـــــة تسمى خلـــف د. سيملويس، وظهـرت أكثر من تســــعة أفــلام بلغات متعددة تحكي قصته تشريفاً له، بعضها يحمل عناوين ذات مغزى عميق مثل فيلم «القرود الاثنا عشر» عام 1995م و»من الممكن أن تعيش الأمهات» عام 1938م.
إن مقاومة الاعتراف بأبحاث د. سيملويس في التعقيم من قِبل المجتمع الطبي النمساوي ومؤازرة البرلمان له كانت نابعة من كراهية الناس الفطرية للاعتراف بالخطأ؛ فهم لا يريدون أن يعترفوا بأنهم هم الذين كانوا يقتلون الأمهات والمرضى وليس بعض الغازات السامة كما كانوا يتوهمون ويوهمون الناس بهذه الأساطير.
وكما فعل سيملويس فبيّن أن التلوث هو سبب الموت في المستشفيات، فنقض بذلك في سطر واحد كل أبحاث ومؤتمرات ومعتقدات المجتمعات الطبية النمساوية المتعلقة بهذا الشأن، ومعهم من معهم من البرلمان والمسؤولين، فرفضوه وأهملوه غير مكترثين بموت الآلاف كل يوم من الناس. جاء ابن سالم اليوم لينقض في سطر واحد أربعين سنة من التحريم والتضييق على الناس وعشرات المؤتمرات والكتب، وينفض غبار كثير من الأساطير المتعلقة بالقول بربوية النقود اليوم القائم على الاعتقاد بصحة علة الثمنية التي لم يعد يخفى على الصبية بطلانها. وبنقضها تنتقض كل الحاجة إلى الحيل والتلاعب فيما يسمى بالصيرفة الإسلامية، وتنتقض الحاجة إلى غالب أطروحات الاقتصاد الإسلامي الأسطوري الذي لا وجود له لا واقعاً ولا منطقاً ولا علماً. وبالفعل، فقد قال لي بعض الفضلاء ذلك صراحة: أتريدنا بعد أربعين عاماً من التضييق على الناس وخنق الاقتصاد وكل هذه البهرجة حول الصيرفة الإسلامية أن نأتي فنقول للناس أنا كنا على خطأ!!! فقلت إن لم يكن اليوم فهو حاصل غداً لا محالة {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}. وإن غداً هذا لقريب، فالتواصل اليوم ليس كالقرن الثامن عشر، وسترجعون إلى هذا بأثر رجعي فلا يُقيم الناس لكم وزناً بعد ذلك. والمسكوت عنه: أن في هذا الأمر دليل على أنه لا أثر للدين غالباً في ردع النفوس عن الهوى، ولو زعمت التورع وادعت الديانة إذا تعلق الأمر بالانتصار للنفس، فالتأويل باب واسع ستجد النفوس فيه مخرجاً يُلهيها عن الشعور باللوم أو الذنب.
hamzaalsalem@gmail.comتويتر@hamzaalsalem