* يفاجئُ التأريخُ من لم يقرأ تفاصيله، وكلنا كذلك؛ فليس كتابًا فردًا كي نلمَّ به، ولا رأيًا واحدًا نتمثله، وقد تتكررُ بعضُ ملامحِه وشخوصِه وقد تتقاطع؛ فلا نستطيع روايةَ حكايةٍ من عصرٍ لنقارنها بحكايات عصرٍ مختلفٍ، ولا نستدعي شخصيةً محوريةً في زمنٍ لتكون رمزًا لزمنٍ لاحق أو دلالةً على زمن سابق.
* التأريخ ليس دروسًا وعظيةً ولو سعينا ليكون كذلك؛ فما عاشه أهلُ بقعةٍ في حقبةٍ لا ينطبقُ على سواهم إلا بالمشتركات الإنسانيةِ العامة، ومن بكوا على عهد عمرَ -رضي الله عنه- ورووا مواقفه استقاءً من مسلسله الذي عشنا معه ثلاثين ليلةً في رمضان فإنهم يقارنون حيث لا مقارنة؛ “فلكلِّ زمانٍ دولةٌ ورجال”.
* سنتعب كثيرًا لو التمسنا القواسم والمقسمات؛ فالأولى نادرةٌ والثانيةُ وافرة، وما الظنُّ أن أممية الخلافة ستعود فضلاً عن خلفائها، ولن تتأتى أفضليةُ عصر النبوةِ الإلهيةِ لأزمنة النبوءات البشرية مثلما لن يعود توجسُ الإنجليزي المحافظ في القرن السادس عشر من سفرِ أبنائه إلى إيطاليا لأنها تعكس الفساد الأخلاقي حيث يروي أحد القساوسة وفق ما ينقل “ول ديورانت” في “قصة الحضارة” أنه رأى في بضعة أيامٍ من منكرات روما ما لم يره في سنواتٍ بلندن.
* التأريخُ يختصر خلافات الماضويين الذين يرون العودةَ إليه طريقَ الغدِ والوعد، والانقطاعيين الذين يحكمون على اليوم عبر معطياته المنفصلة، وفي كليهما تمحورٌ حول الأمس معانقةً أو تجاهلاً، وأيسر لمَنْطَقة الخلاف أن ننبُتَ فلا ننْبَتَّ؛ فقد أمطرت الغيمةُ ومضت ولن تعود لتعيد إحياءَ القَفْر؛ ما يجعلنا مطالبين بأن نستزرعَ الغمام ونسقي الشجر.
* قد يوجز هذا الفرقَ بين “التأريخيين” و”التأريخانيين” في التعامل مع الحدث بتفصيلاته أو تجاوزها نحوعلله، وهو الفاصل بين السرد والفلسفة؛ فالحدث المجرد حكايةٌ نقرأ فيها الانتصار والانكسار، وقد نتوقف عند أحدهما لنستشهد به على الأدلجة التي تحكمنا، وفلسفتُه تعتني بقراءة العلة والتعليل متكئةً على التركيم الزمني والقراءة المجردة وفق مناهج الاستقراء الدلالية.
* قسمتنا حوادث التأريخ بين مذاهب متصادمةٍ؛ فقد رُويت مجردةً ثم مزيدةً ثم موظفةً لأهدافٍ دينيةٍ وسياسيةٍ ففقدت عذريتها، وباتت موطئَ تجاذباتٍ يدفع الأجيالُ ثمنها دمًا ودموعا.
* هل يخرج الجيل الناشئُ من أوزارِ أهله ونقائضهم من خلال العناية بالتأريخانية أو فلسفة التأريخ مؤمنين أن لكلٍّ ما كسب؟.. حلمٌ أقرب إلى الخيال بعدما استفزَّ مسلسلٌ عابرٌ كلَّ ما فينا سواءٌ من أحبُّوا البطل أو من ناوؤوه، ولو كنا فريقين لتفهمنا وجود الخلاف لكننا كنا فرقًا داخل كل فريق.
* الأمسُ رمسٌ لمن بكاه.
ibrturkia@gmail.comt :@abohtoon