تختلف الدول في حجم بيروقراطيتها..
فدول تتشبع بالبيروقراطية، ودول أخرى يقل فيها حجم البيروقراطية..
والبيروقراطية هي قواعد تنظيمية داخل المؤسسات والدول والمنظمات التجارية تعمل على تنظيم العمل
وتحديد الإجراءات المتبعة في تسيير خطوط الإنتاج وحركة العمل اليومي.. وفي العادة تعتمد على الهيكل الهرمي من الأعلى إلى الأدنى في سلالم الإدارة.. ونحن هنا لا نرفض البيروقراطية كقواعد تنظيمية، فلا يمكن أن تعيش دولة أو مؤسسة أو شركة دون أن تعتمد على أسس بيروقراطية متينة لتنظيم العمل الداخلي أو البيني بين تلك المؤسسة أو الشركة وغيرها من المؤسسات والمنظمات والشركات ذات العلاقة يميناً أو شمالاً أو من الأعلى أو من الأدنى..
ولكن حجم البيروقراطية كروتين حكومي هو مثار الجدل ومصدر الخلاف، فكلما زاد الروتين الحكومي تعقدت مصالح الناس وضاعت حقوقهم في متابعة شئونهم الخاصة ومعاملاتهم الشخصية.. وكلما كان تحرك معاملة ما بين مواقع عديدة وجهات مختلفة ولفترات زمنية طويلة كلما كان هذا الروتين هو ضد مصلحة المواطن.. وهنا نستدعي مفهوم المركزية كمحور أساسي في التعاملات البيروقراطية في الدول. ويمكن أن تتصنف الدول إلى تقسيمين أساسيين: دول مركزية ودول غير مركزية، فالدول المركزية هي التي تستوجب فيها المعاملات والإجراءات الوصول إلى قمة الهرم الإداري أو السياسي في الدولة، ولا يمكن أن تنتهي معاملة أو موضوع أو قضية في سقف أقل من السقف الأعلى في الدولة.. بينما دول أخرى منحت سلطاتها الإدارية إلى جهات وإدارات أخرى أقل من السقف الأعلى في الكيان السياسي للدولة.. بمعنى أن تفويض الصلاحيات تم منحها إلى إدارات أقل من الهرم السياسي أو الإداري في الدولة.
وإذا استدعينا الحالة السعودية سنجد أن بعضاً، بل ربما كثيراً من المعاملات تحتاج إلى الصعود إلى أعلى الهرم الإداري في الدولة سواء كان الوزير المختص أو حتى أعلى منه إلى رئاسة مجلس الوزراء حتى يتم البت فيها، ولا يمكن أن تنتهي مثل هذه المعاملات في مستويات دون هذه الإدارات العليا في الدولة.
ولو نظرنا إلى أبسط الإجراءات التي تمثل روتيناً اعتيادياً في العمل اليومي للمواطنين سنجد أن مثل هذه التعاملات تتحرك إلى الأعلى حتى تصل إلى قمة الهرم الإداري للبت فيها مما يجعل انتظار المواطن طويلاً حتى يتحقق له مثل تلك الموافقة أو تلك الرغبة، وهي في الغالب تكون إيجابية ولكنها تأتي بعد وقت وجهد وإجراءات مطولة تستنزف وقته وفكره وجهده. وفي رأيي المتواضع أن الحاجة تستلزم أن تحدث لدينا تغيرات في مفاهيم العمل الحكومي أشبه ما تكون بثورة إدارية في إدارة الشأن المدني في المجتمع السعودي.. وحتى نصل إلى تطوير وتغيُّر في مفاهيم العمل الإداري نحتاج أن نقتنع بمسلّمات محورية في هذا العمل، ومن بينها وربما أهمها ما يلي:
1 - أن تكون الثقة هي أساس التعامل مع الناس، وليس الشك كما هو مجرب في كثير من الدوائر الحكومية وبخاصة الدنيا.. فتنظر مثل هذه الدوائر إلى المواطن على أسس شكّية وليس على أسس من الثقة وافتراض حسن النوايا.. وإذا تولدت لدينا قناعات بهذا المبدأ فإننا سنكون قد قطعنا شوطاً مهماً وكبيراً في اختصار الإجراءات التي يمكن أن تنزاح عن كاهل المواطن.. وإذا تماشت الأنظمة الإدارية بهذا المفهوم فإن إجراءات روتينية كثيرة ستسقط من روتين المعاملات الحكومية، وسيستفيد المواطن منها في اختصار مثل هذه الإجراءات.
2 - منح الصلاحيات الإدارية للإدارات الحكومية سواء التخصصية من خلال الوزارات أو المكانية من خلال أمارات المناطق حتى يمكن أن يتم البت في قضايا ومعاملات المواطنين في أقرب مكان وفي أقرب إدارة حكومية.. وتفويض أو منح الصلاحيات هو مطلب محوري في منع التعقيدات الروتينية لمعاملات المواطنين.. وسيكون من فوائد مثل هذه الصلاحيات تقليص المعاملات التي في العادة يتم رفعها للمقام السامي.
3 - اختيار شخصيات قيادية في العمل الحكومي تكون قادرة على إدارة الشأن الإداري بإخلاص واقتدار دون الخوف والتردد.. ومن المعروف أن لدينا كثيراً من الشخصيات الإدارية تشعر بالقلق دائماً وتعمل على راحة البال ومحاولة رمي المخاطر إلى الأعلى دون أن تفكر في أدنى مسئولياتها في إمكانية اتخاذ قرار ذاتي من طرفها لحل مشكلة أو اتخاذ قرار أو البت في موضوع.. ولهذا فإن كثيراً من المعاملات التي تصل إلى مثل هؤلاء المديرين تنتقل بكاملها إلى الأعلى.. ولهذا أصبح مثل هذا المدير أو ربما حتى الوزير يُشكّل عبئاً كبيراً على المقام السامي، وليس معيناً له.. فكل صغيرة وكبيرة يتم رفعها إلى الأعلى من باب الأمان الذي يعشقه أكثر من 99% من القائمين على الإدارات الحكومية.
4 - التخلص التدريجي من الهاجس الأمني الذي بدا يصبح مشجباً تلقيه كثيرٌ من الإدارات الحكومية ويكون حجة لها في تأخير أو تعطيل الإجراءات الروتينية للمعاملات الإدارية المختلفة.. وإذا كانت هناك ضرورة لمثل هذا الإجراء الأمني فيجب أن تكون في الطرف المقابل إجراءات مبسطة ومختصرة وسريعة تُسهل الأمور ولا تعقدها..
وختاماً فإن ثورة إدارية تستوجب أن تكون هناك منظومة متكاملة من العمل المشترك بين كافة الأجهزة الحكومية حتى نصل إلى قاعدة من العمل الوطني الذي يصب في مصلحة الدولة والمواطن.. وتعمل الدولة دائماً بقيادة خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد - يحفظهما الله - ليل نهار في خدمة المواطن، وتحرص دائماً على تقديم وتذليل كل السبل المتاحة لتحقيق هذه الغاية..
alkarni@ksu.edu.saرئيس الجمعية السعودية للإعلام والاتصال، المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية بجامعة الملك سعود