إن الشاب كالفرس الجموح، إذا لم يحرص قائدها على حسن سياستها وترويضها لكبح جماحها قبل تهيئتها للطراد، ومقارعة الفرسان، فإنها لا شك سوف تلقي به أرضاً وتسبب له أضراراً باهضة إن لم يكن ذلك سبباً لهلاكه، والحكمة الشعرية العربية تقول:
فكر لنفسك قبل الخطو موضعها
فمن علا زلقاً عن غرة زلجا
ومثلما أن الفرس لها مقود تروض به لكبح الجماح حتى تكون طيعة في يد راكبها، فإن الشاب قد جعل الله له في شريعة الإسلام بمصدريها: كتاب الله وسنة رسوله، مقوداً يحجزه عن التحدي والتعدي على حدود الله.
هذا المقود الذي يحجز الشباب ويمنعهم عن تجاوز الحدود، أو الاستسلام لرغبات النفوس الأمارة بالسوء، هي التربية الحسنة عند تفتح الذهن، وإعطائه جرعات من القيم، التي تميز بين الحسن والقبيح بأمور عملية تكبر مع نمو عقله وإدراكه كما قيل من باب المفاخرة في المثاليات وحسن التربية:
ويكبر ناشئ الفتيان فينا
على ما كان عوده أبوه
ثم بعد ما يتسع نطاق الفهم والإدراك يتخذ الولد قدوة بأبيه، والبنت بأمها، وتتم سعادة الأبوين بحسن قدوة الأبناء بمنهج الأبوين فإن بذرا حسناً برزت النتيجة الحسنة، وإلا فلا، ولذا واجبهما العناية بالأولاد، مثلما يهتم الفلاح لرغبته بالمحصول الجيد والعائد الحسن لجهده، بما يحرص عليه من مزرعة لينعم بمردود يبهج خاطره، ومثل ذلك مربي الدواجن والطيور، ومروض الخيول والقائم على الماشية، كل هؤلاء لا بد أن يبذلوا جهداً تبين نتائجه بمردود حسن تفرح بها النفوس.
والأولاد قد حملت تعاليم الإسلام الأبوين رسالة كبيرة في العناية بهما قبل النضج إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه - كما تلد الشاة شاة جمعاء هل ترون فيها من جدعاء”. ويقول عمر بن الخطاب في حسن اختيار الزوجة الصالحة، مثلما يختار الفلاح لزراعته أرضاً خصبة ليكون المردود جيداً رضي الله عنه: “اختاروا لنطفكم فإن العرق دسّاس”.
ولكي يسعد الأبوان، بالأبناء من بعدهم، فإن عليهما الحرص في التعامل بينهما، وفق التوجيه الحسن في شريعة الإسلام، ومراقبة نظرة المجتمع فيها، وعلاقة التصرفات، وأداء الشعائر وفق ما أمر الله به، وما جاء عن رسوله الكريم، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: “ما رآه المؤمنون حسناً فهو حسن، وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو قبيح”.
وما ذلك إلا أن الشاب يرى مثله الأعلى متمثلة في أبيه، وكل فتاة بأمّها معجبة، ولذا فإن حسن التربية في الجنسين، تبدأ من المدرسة الأولى وهي البيت، وما يجد الأولاد فيه من عناية وحسن توجيه، أو انفلات وسوء وبتوجيه.. وليختر الأبوان لأولادهما ما يريدان، ولا شك أنهما يريدان الخير والمثالية، فعليهما أن يسعيا في الطريق السليم، وما نقص عملهما عن إدراكه، فليسألا أهل العلم - كما أمر الله في كتابه الكريم.
والمقود الذي يقيد الشباب عن تجاوز الحدود، أو الاستسلام لرغبات النفس الأمارة بالسوء هي تعاليم الإسلام وترسيخ دين الله في قلب كل شاب: علماً وفهماً، وفي أعماله قدوة صالحة وحسن تطبيق.. وهذا فيه حصانة للأولاد وحسن رعاية، وهو أمكن من الاهتمام باللقاحات والتحصينات ضد بعض الأمراض، فهذا حصانة ووقاية للجسم، وذاك حصانة ووقاية للعقل وسلامة العقيدة، وبعد ذلك يأتي دور آخر، وتسليم هذه الأمانة لاستكمال الرعاية.
وذلك في المدرسة التي يجب إشعار الناشئ بأن رقابته على نفسه قد كبرت، فيكون من تعليمات المدرسة ومنهجها، إعطاء الناشئ ثقة في نفسه بالتعبير والعمل، ومن ثم مراقبته فما كان صحيحاً أثنى عليه به، وما كان غير ذلك وجه التوجيه الحسن الذي يصوب ما أخطأ فيه، بدون تأنيب أو إشهار يجرح شعوره ويكون رده معاكساً لأن مبدأ ديننا وحسن التوجيه فيه الدعوة إلى الرفق وعدم العنف.
ألم يقل جلّ وعلا في حسن التأديب لنبيّه الكريم الذي حملّه ربه تبليغ الرسالة التي فيها الطريق السليم لسعادة البشرية: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) آل عمران 159، وقد أمره ربه بالعفو عنهم، وأن يستغفر لهم ومشاورتهم في الأمر، وبعدما يعزم يتوكل على الله.
ويقول سبحانه في توجيه التبليغ والدعوة” (أدع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسن وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) النحل 125.
فإذا كان الشاب عندما تفتحت مداركه، يرى مثله الأعلى وقدوته في العمل من حوله في البيت: الأم والأب والأخوة الأكبر فالأكبر منه، والأعمام، فإنه في المدرسة تتفتح مداركه على سلطة أعلا: المدرس ومدير المدرسة ويتأثر بالزملاء في أقوالهم وأعمالهم وقد يكون فيهم من هو أكبر فيخاف من سلطته، فيرى في المدرسة سلطة أعلا ونموذجاً آخر للتربية والتوجيه، ثم يزداد معرفة ليكون للقرناء الذين يماثلونه في السّن أو يكبرونه مثلاً من نوع آخر يجاريهم ويتأثر بهم، وخاصة في سن البلوغ الذي به تحول كبير في حياة الشباب: ذكوراً وإناثاً، ليبدأ بإنشاء علاقات وصداقات. فإن كان بين هؤلاء القرناء الصالح تأثر به الشاب وأصبح صالحاً مثله، وإن كان كل منهم الفاسد المنحرف في خلقه وتصرفاته جرفه على منهجه، لأن القرين بالمقارن يقتدي.
وهنا دور المدرسة في المراقبة، وتعديل الاعوجاج في بدايته، وإن لم يغير، فتطلب ولي الأمر للتعاون معه في تحسين المسار، والمثل العربي يقول: “إن القرين إلى المقارن ينسب، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً محسوساً للجليس الصالح وللجليس السوء بقوله الكريم: “إنما مثل الجليس الصالح كحامل المسك، إما أن يحذيك أو تجد منه ريحاً طيباً، ومثل جليس السوء كنافخ الكير إما أن يحرق ثيابك أو تجد منه ريحاً خبيثاً”. فيأخذ الشاب من هذه الأمثال المحسوسة، يحرك جانب الخير فيه.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم خير معلم في مخاطبة العقول، بما يلامس أوتارها، فقد جاء إلى مجلسه يوماً شاب متمل الحيوية، وفي عنفوان زهرة الشباب، راغباً أن يعبر عن هواجس نفسه، التي تريد تلبية رغباتها وعواطفها، بنزعة وقتية، ولكنه قاصر النظرة عن النتائج، لأن الشباب في الغالب ينقادون للحماسة، متجاهلين العواقب البعيدة التي لا يدركها إلا من نضج عقله، وكمل إيمانه، وارتوى من ينبوع شرع الله ليتحصن عن الزواجر والحدود. جاء هذا الشاب، وتخطى صفوف الصحابة، المحيطين برسول الله صلى الله عليه وسلم، ليتفقهوا، أمور دينهم بأدب واحترام، لمجلس رسول الله، كما أمر ربهم جلّ وعلا، في كتابه الكريم، ومن أدبهم لهذا المجلس العلمي، وأمام معلم البشرية أمور دينهم فقليل منهم يسأل، وإنما يفرحون بوافد يسأل، أو مسترشد يريد جواباً بالأمر أهمه في أمور دينه.
جلس هذا الشاب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله إإذن لي بالزنى”.. وقد كبرت هذه الجرأة بهذا السؤال على الصحابة، فهمّوا بالشاب، لكنهم تأدبوا لمجلس رسول الله، ولخلق رسول الله العظيم كما وصفه ربه الكريم في سورة القلم، وطباعه التي تأدب بها، جعلته يومي إليهم بتركه، ولم يرّد على السائل.
وتشاغل الرسول الكريم عنه، بانصرافه لأمور أخرى في الدعوة والتعليم، حتى ظن الصحابة أن أعصاب الشاب هدأت وقلبه توطن على سماع ما يلقى عليه.
فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشاب بسؤال تقريري: ماذا قلت؟ قال: يا رسول الله ائذن لي بالزنى، فأجابه البشير النذير عليه الصلاة والسلام، بما يحرك أساسيه ويُفِهم الآخرين، قائلاً: أتحبّه لأمّك؟ قال: لا. قال: أتحبه لأختك؟ قال: لا.. وقال أتحبّه لخالتك.. لعمتك.. لزوجتك.. لابنتك.. فقال: لا. لا لكل حالة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس كذلك.. ودعا له بأن يربط الله على قلبه. ولم ينهره أو يشدّد حتى لا ينفر من الإسلام.
فاقتنع الشاب وهدأت نفسه وانصرف.. بهذا الدرس الملامس لأوتار القلوب، وبرفق وإقناع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمور محسوسة.. وما ذلك إلا لأن الزنى من أكبر الفواحش، كما وصفه الله، وأغلظ في تحريمه، والنهي عنه في القرآن الكريم.
ولعل من علة تحريمه الظاهرة للناس أنه يفسد النشء، وتنتهك الحرمات، وتختلط الأنساب، لكنه بالجارة أسوأ، ومن المؤتمن والقريب أفحش لأن هؤلاء لهم حرمات المجورة والقربى، فقد جاء في الصحيحين عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال قلت: يا رسول الله “أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل الله ندك وهو خلقك، قلت: ثم أيّ: قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك” هذا علاوة على ما وراء الزنّى من أمراض ومفاسد عديدة، وقد أنزل الله عقاباً عاجلاً في الأمم حاضراً بانتشار مرض “الايدز” الذي هو من نقص المناعة في الجسم، ويسميه الأطباء طاعون القرن العشرين، لأن من يموت بسببه سنوياً مئات الملايين، وعزوه إلى المباشرة المحرّمة: إما الزنى أو اللّواط، نسأل الله العافية.
ولمّا حرّم الله إيذاء الجار لما له من حقوق، يجب على الشباب إدراكها، فقد روى البخاري من حديث المقداد بن الأسود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لأن يزني الرجل بعشر نسوة، أيسر من أن يزني بامرأة جاره، ولئن يسرق الرجل عشرة بيوت أيسر من أن يسرق بيت جاره”، وحقوق الجار كثيرة ومهمة ولعله يتاح لذلك عرض أشمل، من باب توجيه الشباب إلى هذه الحرمات حتى يسلم من شرها.
mshuwaier@hotmail.com