الخليفة هشام المؤيد بن المستنصر أحد خلفاء بني أمية في الأندلس، وأكثر خلفائهم سذاجة ونقص عقل، وقد نسج حوله الكثير من القصص والأقاويل، ومما قاله عنه ابن الخطيب “عندما تُوفِّي الحكم المستنصر لم يكن له من الولد سوى هشام، وكان عمره أقل من اثنتي عشرة سنة، وكان النفوذ في يد ثلاثة أقطاب: الصقالبة، وهم قادة القصر، والحاجب جعفر بن عثمان المصحفي مؤدب الحكم المستنصر، و(صبح) البافارية أم هشام الذي لقب فيما بعد بالمؤيد، وانضم إليهم فيما بعد محمد بن أبي عامر الذي استطاع إزاحة الجميع للوصول إلى الحجابة والقيادة، ولقب نفسه بالمنصور، وليبقي هشام المؤيد أمير منزله رغم أنفه، يلهو ويرتع في ملذات الصبا ثم الشباب؛ لتزول بذلك دولة بني أمية من الغرب بعد زوالها من الشرق”. ومن أراد الاستزادة عن مآسي هشام المؤيد وأجداده من بني أمية ومجتمعهم الأندلسي فيمكنه الاطلاع على كتابنا (مآسي الأندلس).
لقد كان الخليفة الصبي هشام المؤيد بالله ميَّالاً بطبيعته وسنِّه إلى اللَّهو والدّعة، ولم يكن له من الطبائع ما يؤهله لحمل إرث كبير، وربيع دولته هبت عليها العواصف من كل جانب؛ لتكون هشيماً تذروه الرياح، وقد ذكر “دوزي” أن صبحاً أم هشام المؤيد وصاحبها الحاجب ابن أبي عامر يشجعانه على هذه الميول السيئة في نفس الأمير، ويريانها ملائمة لمقاصدهما. وقد اتفق كل منهما على حجبه، ومنع خاصة الدولة وعامتها من الاتصال به.
ويقول ابن الخطيب: “ولما كان هشام متدرجاً في طي كافله الحاجب المنصور، بحيث لا ينسب إليه تدبير، ولا يرجع إليه من الأمور قليل ولا كثير، إذ كان في نفسه وأصل تركيبه مضعفاً مهيناً مشغولاً بالنزهات، ولعب الصبيان والبنات، وفي الكبر بمجالسة النساء ومحادثة الإماء”. أما الحجاري فقد هوَّل حديثه في تخلف الخليفة هشام المؤيد فقال: “نشأ جامد الحركة، وأخرس الشمائل، لا يشك المتفرس فيه أنه نفس حمار في صورة آدمي. وعشق في صباه نباح الكلب فجعل الغلمان يهيجونه حتى ينبح، ليلتذ بذلك. وكلما زاد سناً نقص عقلاً، ولما خلعه المهدي وحصل في قبضته قال لأحد غلمانه وقد ذهبت دولته وهتك حرمه: بالله انظر هدهدي إن كان سلم، وافْتقِدْه لئلاّ يهلك بالجوع والعطش، فإنه من ذرية الهدهد الذي دلَّ سليمان على عرش بلقيس. قال المأمور بهذا: فكِدت والله أخنقه فيستريح، ويُستراح منه”. وذكرت شيئاً من ذلك في كتابي، كتاب “مآسي الأندلس” وكتاب “مباهج الأندلس”.
وكان الغالب على أمره حاجبه المنصور محمد بن أبي عامر المشهور قوله وفعله، وهو أديب وسياسي وقائد سمي بالملك، وأكثر من الغزوات فكثرت السراري في عهده حتى أن الحرة يدور بها والدها في السوق ويدفع مهراً لمن يتزوجها فلا يجد زوجاً لكثرة الجواري في زمانه. وكانت له مطارحات أدبية وشعرية مع جلسائه وندمائه، ومنهم أبو المغيرة ابن حزم الذي أورد موقفاً له مع الحاجب المنصور، وسنورده لما فيه من عِبر منها أن الحب يقع دون استئذان، وأن الغيرة فطرة، والصدق منجاة، والصفح من خصال الكرام. فقال أبو المغيرة: نادمت يوماً المنصور ابن أبي عامر في منية (منتزه) السرور بمدينة الزاهرة ذات الحسن النضير، وهي جامعة بين روضة وغدير، فلما تضمخ النهار بزعفران العشى، ورفرف غراب الليل الدّجوجيّ، وأسبل الليل جمحه، وتقلد السماك رمحه، وهم النسر بالطيران، وعام في الأفق زورق الزّبرقان، أوقدنا مصابيح الراح، واشتملنا ملاء الارتياح، وللدّجن فوقنا رواق مضروب، فغنتنا عند ذلك جارية تسمى أنس القلوب: (الخفيف).
قدمَ الليلُ عند سيرِ النهارِ
وبدا البدرُ مثلَ نِصفِ سـوارِ
فكأن النهارَ صفحة خـدِّ
وكأن الظلام خـطُ عـذارِ
وكأن الكؤوسَ جامدُ ماءٍ
وكأن المـدامَ ذائبُ نـارِ
نظري قدْ جَنى علي ذنوباً
كيف ممّا جنتْه عيناي اعْتذارِي؟
يا لقومي تعجبوا من غزالٍ
جائر في محبتي وهو جـاري
ليتَ لو كان لي إليه سبيلٌ
فأُقَضِّي من حـبـه أوطـارِي
قال: فلما أكملت الغناء، أحسست بالمعنى، فقلت: (الخفيف)
كيف كيفَ الوصولُ للأقمار
بين سُمْر القنا وبيضِ الشفارِ؟
لو علمنا بأن حبَّكَ حـقٌّ
لطلبنا الحياة مِنكَ بثـارِ
وإذا ما الكرامُ همُّوا بشيءٍ
خاطروا بالنفوسِ في الأخطارِ
قال: فعند ذلك بادر المنصور لحسامه، وغَلَظَ في كلامه، وقال لها: قولي واصدقي إلى من تشيرين بهذا الشوق والحنين؟ فقالت الجارية: إن كان الكذب أنجى، فالصدق أحرى وأولى، والله ما كانت إلاّ نظرة، ولّدت في القلب فكرة، فتكلم الحب على لساني، وبرّح الشوق بكتماني، والعفو مضمون لديك عند المقدرة، والصفح معلوم منك عند المعذرة. ثم بكت فكأن دمعها دُرّ تناثر من عقد، أو طلٌ تساقط من ورد، وأنشدت: (المجتث)
أذنبتُ ذنبا عظيمـاً
فكيف منه اعتذاري؟
والله قـدَرَ هـذا
ولم يكنْ باختيـاري
والعفوُ أحسنُ شيءٍ
يكون عند اقتـدارِ
قال: فعند ذلك صرف المنصور وجه الغضب إليّ، وسلّ سيف السخط عليّ، فقلت: أيدك الله تعالى! إنما كانت هفوة جرها الفكر، وصبوة أيدها النظر، وليس للمرء إلا ما قُدِّر لـه، لا ما اختاره وأمله. فأطرق المنصور قليلاً، ثم عفا وصفح، وتجاوز عنا وسمح، وخلى سبيلي، فسكن وجيب قلبي وغليلي، ووهب الجارية لي فبتنا بأنعم ليلة. “المباهج”.
وأما أنا فأقول: من لي بابن أبي عامر يهدي لي جارية، على سنة الله الجارية، تضفي على الوشاح وشاحاً، وتكسر للجنوح جناحاً، تساعد على تبريح الصدى، ولا تمطل حتى غدا، وإن كنت بحمد الله سعيداً، ولست وربي طريداً، وإنما بمنظوم الكلام سعيد، فإن لم تسعف الأفعال فلا نمنع النفس من الأقوال.