في ظل متغيرات عالمية غير مسبوقة... ومع التطور المتسارع في مجال تكنولوجيا الاتصال والتقدم الهائل في التقنية الإعلانية، لم تعد ثقافة الاستهلاك قاصرة على مجتمع بعينه أو فئة محددة من الناس، بل أصبحت ظاهرة عالمية انتشرت وتزايدت في عصر تداعت فيه القيم الأخلاقية وشاعت خلاله كثيرٌ من السلوكيات الخاطئة التي طغت على مفاهيم العمل والجهد والتعب والإنتاج، وشجعت في الإنسان المعاصر الميل للراحة والدعة والاستسلام للحياة المرفهة، وولدت في أعماقه حب المباهاة، وألبسته ثوب خداع يتفاخر به زيفاً، فينقاد انقياداً أعمى للمسايرة والتقليد.
فإذا كانت ثقافة الاستهلاك قاسماً مشتركاً بين المجتمعات والأفراد.. إلا أنه في ظل أيديولوجيا الاستهلاك يبقى الأفراد أكثر تأثراً بمتغيرات السوق ومستجداته... لذلك سيطرت نزعة الاستهلاك على مجمل مناحي حياتهم حتى أن بعضهم -وللأسف- ربط نجاحاته وتطوره بمقدار استجابته لمتطلبات الاستهلاك دون النظر بعقلانية عن مدى الحاجة الفعلية المتحققة من ذلك.
ومن ينظر بعين التأمل لحال المجتمعات عامة يدرك تماماً أن ثقافة العصر أصبحت ومن طرف خفي تُرَغِبُ وتشجع على استهلاك مدخلُه تسوق عشوائي نابع من ذات إنسانية تحولت تحت تأثير بريق كل جديد وغريب إلى ذات خاضعة.. ثقافتها الاستهلاكية هي ثقافة استهلاك قهرية فرضتها تقنيات عصر الانفتاح والعولمة، فأصبح طموح الإنسان نحو الاستهلاك غير العقلاني طموحاً ترفياً تفاخرياً... ورمزاً يعبر عن مكانة الشخص في المجتمع.
الثقافة الاستهلاكية ليست بتلك الثقافة الجديدة على أي مجتمع من المجتمعات.. إلا أن التحول نحو اقتصاد السوق في ظل العولمة وسياسة تحرير الاقتصاد وإلغاء الحواجز بين الشعوب نتيجة سيطرة تقنية الاتصالات والتوسع الكبير في عمليات الاستيراد.. إضافة إلى الدعم الإعلامي والإعلاني المصاحب لترويج السلع بشعارات وصور براقة تجذب المستهلك لسحر العرض ساهم كثيراً في تشكيل قيم ثقافية استهلاكية خاطئة لدى الغالبية العظمى من شرائح المجتمع بمختلف طبقاته وفئاته العمرية... لتبقى المعضلة الكبرى هي أن حب التملك ونشوة الاستهلاك غير المبرر هدف رئيس عند الإنسان... مما يجعل الأشياء هي التي تتحكم فيه، ويبدو أن قيمة الإنسان أصبحت تكمن في قيمة الأشياء التي يركض وبكل جنون لامتلاكها، فهو ومن منظور ضيق يرى فيها قيمته الذاتية. فإذا كانت النزعة الاستهلاكية المفرطة تُبقي المستهلك على متابعة دائمة لحركة السوق وما يطرح فيه من مغريات العروض التي تثيره فيندفع بشره نحو الشراء والاقتناء، فإن استقراء المستقبل ينبئ بنتائج كارثية إذا لم تتخل المجتمعات تماماً عن هذه الظاهرة... وتنحى منحى التقنين والاستهلاك العقلاني البعيد كل البعد عن كل ما من شأنه إهدار للثروة مهما كان حجمها... فيا ليتنا ندرك أن الاقتناع بالتقنين في الشراء والاستهلاك هو المدخل الرئيس لاستهلاك رشيد.
zakia-hj1@hotmail.com