وداعا.. آرمسترونج
هذا القرص المنير في كبد السماء الذي يذكر العاشق بوجه حبيبته، والفقير بالرغيف المستدير، والمؤمنين برؤية الله جل وعلا يوم القيامة كما ورد في الحديث الصحيح، ويراه الأطفال فيتخيلون ما يرسم على صفحته من مشاهير وحيوانات وجمادات.
وطئته قدما الفضائي الأمريكي نيل آرمسترونج في يوليو/ تموز 1969 كأول إنسان، في تلك اللحظات التاريخية لم يكن يسيطر على ذهن رائد الفضاء ما ستواجهه قدماه، ولم يسأل نفسه على ماذا سينزل؟.. ولم يضع احتمالات ترهبه من وضع قدميه على سطح صلب أو مائي ربما تغوص إلى جوفه المجهول، وهو يترجل من مركبته الفضائية ليطأ بقدميه الصغيرتين جبهة القمر، ويزرع العلم الأمريكي في أرض بلا جاذبية ولا بشر ولا ماء فيها ولا غيوم، هذا العلم الذي تم تنكيسه في سائر أنحاء الولايات المتحدة بمناسبة تشييع جنازة نيل آرمسترونج، وقال عبارته الخالدة يومئذ عن خطوته على القمر (هذه خطوة رجل صغيرة، ولكنها وثبة كبيرة للبشرية).. والتاريخ الذي خلد عبارته لم ينس أيضاً عبارة الفريق القمري حينما نصب لوحة على سطح القمر فقال: الذي يقرأ هنا رجال من كوكب الأرض جئنا من أجل السلام لكل البشرية.
مات ذلك العملاق بعدما اكتسحته الكآبة في آخر عمره، وتوافد إلى حفل تأبينه أكثر من 400 شخص منهم من يعمل في «ناسا» ومنهم شخصيات بارزة في المجتمع وبعض السائحين لإحياء ذكرى آرمسترونج الذي توفي في 25 أغسطس آب عن عمر يناهز 82 عاماً بعد مضاعفات ناجمة عن جراحة في القلب، ويرصد الواقع أن التغيير الحاصل بعد وفاته هو ارتفاع سعر توقيعه ثلاثة أضعاف عما كان عليه قبل وفاته، ويرثيه مرشح الرئاسة الأمريكية بكلمات «القمر يبكي رحيل ابنه الأول القادم من الأرض»، وقال روبرت كابانا مدير مركز كنيدي للفضاء ورائد الفضاء السابق خلال حفل التأبين «لم يسع قط إلى دائرة الأضواء أو يستغل إنجازاته المشهودة».
وداعاً آرمسترونج والأرض التي رأيتها صغيرة من سطح القمر تحولت في هذا الجو الفضائي إلى خوذة فولاذية تغطي ثكنة عسكرية، والسهام التي كسرها الإنسان معتذرا بعد حروب البسوس وداحس والغبراء تثبت أن لكل زمان بسوسه وداحسه وأن بشرها يذرعونها جوعاً وقلقاً وإقصاء حداً لا يدرون في ذلك اليوم الشديد الحر من غادرهم للأبد، وهم أشبه بسائق السيارة الذي دعس المفكر الفرنسي بارت ولم يكن يعرف أهمية ضحيته وحين أتيح له أن يعرف قال: إنه يستحق الإعدام عشر مرات لأنه لم يكن يدرك أنه دعس فرنسا، وليس رجلاً واحداً فقط؛ فآرمسترونج الذي يتخطى بثقة على سطح القمر لم يكن في تلك اللحظة إلا كل البشر على سطح الأرض المأسوف عليها الآن إذ رجالاتها وحكوماتها ومنظماتها في مساء وفاته مشغولة بقتل الناس وهدم الحضارات والمقابر الجماعية وتقارير عنان والإبراهيمي التي تبحث عن مسوغات للجلادين وإدانات للضحايا. في ذلك المساء أسدل التاريخ ستاره على أعظم إنجاز للإنسان الذي سيبقى خلوده عصياً على النسيان، ولن تنسى الدنيا بأسرها من عبد لها طريق العلم والمعرفة مهما تذرع الساسة بشغلهم عن نعي آرمسترونج البطل في صورة عقوق تعيد نفسها أمام مشاهد موت هؤلاء العظماء في حين تتسارع إلى إعلانات موت طغاة سيدفنون في مزابل التاريخ بحجة الإثارة والبحث عن المشهد المثير.
آرمسترونج الراحل في صمت بعيداً عن ضجيج الآلات العسكرية سيواصل خطواته أيها العالم الأشبه برقص كلاسيكي على أنغام سيمفونية من سيموفنيات بتهوفن الخالدة، وسترثيه الكواكب والمجرات التي مر بها في طريقه إلى القمر، وستبكيه أناقة جون كنيدي وأريج مارلين مونورو وتوهج هوليود الذي لم يشغل العالم آنذاك عن خطواته على سطح القمر مثلما شغل فيما بعد بحرب النجوم وحرب تدمير المدن وتهيئة خيام اللاجئين والعالقين بين الحدود، ولا يغفر العلماء للحكومات والأنظمة والجمعيات وكل إنسان في المجموعة الأرضية تجاهل وفاة هذا الأسطورة وعدم رفع برقيات التعازي للرئيس الأمريكي أوباما لأن الشخصيات التي هي بمستوى آرمسترونج هي شخصيات عامة تتصف بالعالمية إذ لا تخص دولة ولا مجتمعاً ولا وكالة، والمؤسف له صمت هذا العالم بفضائياته التي ملأت موجاتها الكون أمام هذا الحدث الجلل والرهيب المتمثل في غياب البطل آرمسترونج بينما كانت شاهدة على الرغم من قلة الإمكانات الفضائية آنذاك على هبوطه ومتابعة خطواته على الهواء مباشرة، في ذلك الأثناء كان هناك نحو 600 مليون شخص، أي خُمس سكان العالم حينها، يشاهدون طاقم أبوللو11 من خلال البث التلفزيوني بعد أن تركوا أعمالهم انتظاراً لمشاهدة هذا الحدث التاريخي الكبير.
وقد أوضح تقرير لموقع «فوكس نيوز» الأمريكي أن عند هبوط الرحلة قال آرمسترونج: «وضع علامة على سطح القمر يعد انتصاراً لأمريكا في سباق الفضاء في إطار الحرب الباردة».. لم تبهره الأضواء كأقرانه من المشاهير ولم يفقد توازنه ولم يستغل شهرته تلك والدليل على ذلك أنه لم يسمح لنفسه بالظهور، حتى أنه رفض دعوة كل من الحزبين الجمهوري والديمقراطي للترشح في الانتخابات الأمريكية، وحق لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية باراك أوباما أن ينعى نيل آرمسترونج قائلاً: (عندما انطلق آرمسترونج على متن سفينة الفضاء «أبولو 11» عام 1969، وأعضاء طاقم الرحلة.. حملوا معهم طموحات أمة بأكملها.. وانطلقوا ليثبتوا للعالم أن الروح الأمريكية يمكن أن ترى ما وراء ما يبدو أنه لا يمكن تخيله.. وأن كل شيء يمكن تحقيقه بما يتحلى به الإنسان من قدر كاف من البراعة والتصميم.. وعندما وضع نيل قدميه على سطح القمر للمرة الأولى حقق لحظة لن تُنسى أبداً في تاريخ إنجازات البشر). رحل في صمت هذا العملاق بعد أن اعتزل مظاهر الحياة في مزرعته وشأنه شأن العظماء الذين لا يملكون قدرة على مزاحمة الأشرار فيفضلون الصمت والرحيل بهدوء.. والله من وراء القصد.
abnthani@hotmail.com