رأينا في المقالة السابقة كيف أنشئت المذاهب الإسلامية وكيف كان الأئمة بعيدين كل البعد عن أي تعصب أو تحيز ينفي الآخر، ومن هنا قلنا إن اختلاف الأمة رحمة، وكثرة المذاهب الإسلامية دليل على سعة واتساع الدين لكل المؤمنين، وهذا هو عين الصواب وقمة الحقيقة.
وإذا فهم الجميع هذه المسألة فكثيرة هي المشاكل والفتن التي سقط فيها الناس ستهدأ أو تزول. وللأسف فإن العديد منا يتناسى هذه التنازلات الفكرية التي تجعل الواحد يقبل الآخر، وهذا هو بيت القصيد في الدعوة إلى إنشاء مركز الحوار للمذاهب الإسلامية في الرياض...
ومثل المتناسي لضرورة قبل الآخر كمثل أولئك الذين وصفهم ابن خلدون في مقدمته عندما تحدث عن أناس يتلذذون بتغيير حقائق التاريخ أو الخوض فيه دون الإلمام بقواعده حتى زلت أقدام الكثيرين وعلقت بأفكارهم مغالطات ونقلها عنهم الكافة من ضعفة النظر والغفلة عن القياس وتلقوها هم أيضا كذلك من غير بحث ولا روية واندرجت في محفوظاتهم... فالكثير ممن يشعلون الفتن الطائفية في بعض الدول العربية ينقلون إلى أعوام الناس أمورا واهية لا يرجعون حقائقها إلى الأصول الصحيحة المبنية على الرحمة وقبول الآخر والحوار البناء والمجادلة بالتي هي أحسن...
فنجد ابن خلدون مثلا يقول عن المغالطين لحقائق التاريخ: “فلذا يحتاج صاحب هذا الفن إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال والإحاطة بالحاضر من ذلك ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخلاف وتعليل المتفق منها والمختلف، والقيام على أصول الدول والملل ومبادئ ظهورها وأسباب حدوثها ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم حتى يكون مستوعبا لأسباب كل خبره، وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحا، وإلا زيفه واستغنى عنه. وما استكبر القدماء علم التاريخ إلا لذلك، حتى انتحله الطبري والبخاري وابن إسحاق من قبلهما وأمثالهم من علماء الأمة. وقد ذهل الكثير عن هذا السر فيه حتى صار انتحاله مجهلة، واستخف العوام ومن لا رسوخ له في المعارف مطالعته وحمله والخوض فيه والتطفل عليه، فاختلط المرعي بالهمل، واللباب بالقشرة، والصادق بالكاذب، وإلى الله عاقبة الأمور”. وهذا كلام لابن خلدون يعي ما يكتبه وهو مرجع في علوم الاجتماع قديما وحديثا... ونفس الأمور التي قالها عن منتحلي علم التاريخ يقال عن منتحلي علم المذاهب والسياسة؛ فمن الغلط الخفي الذهول عن تاريخ المذاهب وقواعد السياسة الجامعة؛ وهو داء دوي شديد الخفاء كثير الضرر قد تدخل شعوبا عن بكرة أبيها في الفتن ما ظهر منها وما بطن (والفتنة أشد من القتل). والأجيال الصاعدة إذا لم تطعم بحقائق ثابتة ومفاهيم راسخة نكون قد ضيعنا عليها قواعد العيش المشترك؛ أضف إلى ذلك كما ذكر ذلك ابن خلدون أن العوام بل وحتى بعض المستبصرين يذهلون عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام، وهو داء عضال وخفي لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة، فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة، وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر وإنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول: سنة الله التي قد خلت في عباده.
فليس الطلبة الذين عايشوا مالكا وأبا حنيفة والشافعي واحمد بن حنبل مثل طلبتنا اليوم الذين إما لم يسمعوا عن اتساع صدورهم للمذاهب والأفكار الأخرى، أو إذا سمعوا وقرأوا استبصروا ولكن قليل ما هم..... لذا حاولنا في الأسبوع الماضي أن نبين سبب ظهور المذاهب الإسلامية وذكاء الأئمة الذين رفضوا أن تأخذ أفكارهم وفتاويهم على أنها الحقيقة المطلقة؛ فقد يخطئ الإنسان وقد يصيب والرسل وحدهم منزهون عن الخطأ؛ وهذا إن دل فإنما يدل على أنهم كانوا واعين بخطورة التشبث بالرأي الواحد، وخلق أتباع يرفعون القلم والسيف بمجرد ما يفند الرأي برأي آخر أقوى أو بحجة ثابتة؛ وهذا وللأسف الشديد وقع في بعض العصور ويقع في يومنا هذا؛ لذا كانت الضرورة ماسة لإرجاع العقل إلى سماحة الدين وسماحة أتباعه وتجذير تلكم المسائل في عقول وأذهان طلبتنا منذ نعومة أظافرهم؛ فعندما تجد مالكا يقول: “ما من أحد إلا ومأخوذ من كلامه ومردود عليه، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم” فهذا قمة في التسامح وإرجاع الأمور إلى أصولها الحقيقية، لأن الذي يجب أن يتبع هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والأئمة لم يأتوا بشيء جديد أو خارج عن العادة أو من “عندياتهم” وإنما هم مفسرون ومجتهدون لما ورد في الأصلين، لاستنباط الأحكام والتسهيل على البشر ما لم يستطيعوا فهمه منهما؛ فإذا قلد إنسان أبا حنيفة أو الشافعي أو أحمد بن حنبل أو مالكا فإنما يقلد في الحقيقة ما فهمه هؤلاء الأئمة من النصوص الصحيحة.
فما أحوجنا إلى فهم هذه المسائل وما أحوجنا إلى معرفة موضع النزاع حتى يبطل كل نزاع، وما أحوجنا إلى أن نعرف مفهوم الحوار وأصول التعايش وحقيقة الإنسان واختلاف الاتجاه وغيرها من الأمور التي إذا وعاها الإنسان وطبقها، منع نفسه والآخرين من الدخول في غيابات الجب ومتاهات التشرذم وويلات الطائفية العنصرية وغيرها؛ وهي مسائل قد تودي بالبلاد والعباد إلى شر الفتن. وما أحوجنا إلى أن رد الأمور إلى أصولها الحقيقية الصافية والسهلة (إن الدين يسر)؛ فتقليد البعض ومحاكاتهم من غير أن ينظر المقلدون نظرة عقلية مجردة قد تغلق باب الاجتهاد.. وإن نزعة التقليد كما يكتب الإمام محمد أبو زهرة متغلغلة في نفوس الناس توجههم وهم لا يشعرون، وإن سلطان الأفكار التي اكتسبت قداسة بمرور الأجيال تسيطر على القلوب، فتدفع العقول إلى وضع براهين لبيان حسنها وقبح غيرها، ومن الطبيعي أن يدفع ذلك إلى الاختلاف والمجادلة غير المنتجة لأن كل شخص يناقش وهو مصفد بقيود الأسلاف من حيث لا يشعر!.. وإنه ينشأ عن التقليد التعصب، فإن قدسية الآراء التي يقلدها الشخص تدفعه إلى التعصب لها، وحيث كان التعصب الشديد، كان الاختلاف الشديد...! وحيث كان الاختلاف الشديد كان الاختلاف المقيت الذي يغلق أبواب الحوار ونوافذه ويضعه في بروج مشيدة...فالذين ما زالوا يدافعون مثلا عن نظام الأسد داخل سوريا هي طوائف تظن أن كل واحد من الآخرين هو بطيء الذهن، أعمى القلب، ساهي النفس، خارج عن الإمام والجماعة، ونسي هذا المسكين أن عامل الثقة زال بين النظام والشعب؛ ولو فتح هذا النظام حوارا وأدرك ما يجري داخل المجتمع في القرن الواحد والعشرين وفي الأمصار الأخرى، ولو تمتع بعقل منطقي حواري رياضي يربط الأسباب بمسبباتها والأسباب بالنتائج ربطا وثيقا محكما لأنقذت أرواح الآلاف من الأبرياء الذين يقتلون كل يوم ببشاعة لا إنسانية...ولأنقذت الدولة والمؤسسات، وإلى الله عاقبة الأمور.