الأصل في انصراف الرغبة عن التغيير والتجديد هو الارتياح إلى السكون. مَنْ يقرر عدم الحاجة إلى التغيير هو المرتاح مع الموجود والقادر على مقاومة التغيير بطريقة أو بأخرى. كل أمم الأرض تمر عبر تواريخها بفترات جمود تفرضها عليها معطيات وتحالفات اجتماعية تركز على المكتسبات الجزئية على حساب المصالح الجمعية. من طبائع الأمور أن الاهتمام بالمكتسبات الجزئية كأولويات يحتاج إلى اجتهادات قانونية تحسن للناس القبول الجمعي بالسكون. مع مرور الزمن واستقرار الرضا الشامل بذلك يتحول الوضع إلى استسلام للمكتوب على أنه قضاء وقدر لا مفر منه، وتتعطل الرغبة في التجديد تحت وطأة الخوف من التبديع والاتهام بالخروج عن الجماعة والنبذ الاجتماعي. المحصلة النهائية تكون دائماً تعطيل العقول وإنتاج الفقر في الأفكار والجمود الحضاري. حين يحدث اصطدام واختبار قوة مع حضارة أخرى ينكشف المستور ويبدأ النواح على الزمن الضائع.
ملاحقة العلماء والفلاسفة والمجددين في الأندلس وإحراق كتبهم كان بداية النهاية للحضارة العربية في إسبانيا وانكفائها مهزومة إلى شمال أفريقيا ثم السقوط في شباك الاستعمار لمن كانوا بالأمس مستعمرين.
الصين كانت ذات حضارة مزدهرة مرهوبة الجانب حتى فرض عليها التحالف بين الأباطرة وكهنة المعابد البوذية والإقطاع عزلة كثيفة عن الفكر والتجديد، وحينئذ لم ينفعها سور الصين العظيم أمام غزو قبائل المغول والتتار البدوية فسقطت مثلما تسقط التفاحة الناضجة من غصن الشجرة حين تهزها الريح، وكذلك الدولة العباسية سقطت لنفس الأسباب.
الجمود الفكري والتبغيض في التجديد وتبديع الرغبة فيه لا تمس فقط عناصر القوة للأمة المصابة بها، بل تتغلغل بعمق وتعطل كل مناحي النشاطات الاجتماعية للتعامل مع الظروف المعيشية اليومية. حين يعطل التفكير الجمعي ويسود الفقر الإبداعي والاستسلام القدري لما هو كائن، يصبح التعامل مع الجفاف والقحط والأوبئة والكوارث الطبيعية تعاملاً بدائياً وغريزياً، ويسقط الضحايا بالألوف ومئات الألوف. لتبسيط الفهم عن الأضرار والتشوهات التي تلحق بالمجتمعات البشرية نتيجة للعوز الفكري الضارب بجذوره في الماضوية، يكفينا التأمل في تعاملنا المحلي مع مقتنياتنا الحديثة من السيارات والأجهزة الكهربائية والإلكترونية ومع المرافق العامة. لم يتكون عندنا بعد تفكيرٌ خلاّق وعقلاني للتعامل مع وسائل المدنية المستوردة. كل ما نفعله هو أن نشتريها ونستهلكها ثم نرميها مع أول عطب لا تستطيع العمالة المستوردة إصلاحه أو ترقيعه. تعامل التلاميذ والطلاب مع المرافق المدرسية، والمواطنين مع الحدائق والمؤسسات الخدمية، والسائقين مع الشارع والرصيف وتعاملنا جميعاً مع الأكل والشرب والنوم والعمل، في كل هذه النواقص إشارات واضحة على غياب العقل الجمعي وضمور الأفكار والاستسلام لما هو كائن وموروث.
التغاضي عن هذا النقص الفاضح في القدرة الفكرية للتعامل الإبداعي مع شروط الحياة الحديثة، هذا التغاضي بحد ذاته دليل واضح على الضمور الفكري المتوارث من عقليات العداء للتجديد والتحذير منه، وكأن عقول المجددين مجرد أوعية ناقلة لا تستطيع التمييز بين الصالح والفاسد والغث والسمين.
الرياض