أتمنى ألا أكون متشائما، ولكنني أعتقد أن الحقيقة تقول: إن مواقف إيران ضد إسرائيل، والولايات المتحدة الأمريكية، هي مواقف إعلامية استهلاكية - فقط -؛ لتكسب إيران ثقة الشعوب - العربية والإسلامية -؛ وحتى تستطيع تحقيق حلم الثورة الخمينية عام 1979م، بأن تصبح إيران قائدة للعالم الإسلامي.
كتبت مرة، أن التضليل السياسي يُعتبر فناً من فنون السياسة، وعاملاً أساسياً مهماً في الصراع بين الدول الكبرى، كل ذلك؛ من أجل تحقيق المصالح، ودفع المفاسد. فلا صداقة دائمة في السياسة، ولا عداء دائم؛ لأن المعيار في طبيعة القرارات، هو تقاطع المصالح بين الدول. وفي الفترة القليلة الماضية، تدافعت التصريحات الإعلامية، وعادت الإشارات منذرة بحرب أمريكية وشيكة على إيران، وأن الضربة العسكرية قاب قوسين، أو أدنى، وأنها مسألة وقت. إلا أن ما يظهره كثير من الساسة، والزعماء غير ما يبطنونه، فمن الممكن أن تتظاهر دولة - ما -، أو زعيم من زعماء العالم بعداوته للولايات المتحدة الأمريكية، ويكون في الحقيقة عميلاً من عملائها، وانظر - مثلاً - إلى جمال عبد الناصر، وأجهزة إعلامه في الستينيات، فمنذ وصوله إلى سدة الحكم، وحتى وفاته كان يهاجم الولايات المتحدة الأمريكية، والعكس صحيح، وظن الناس أن هناك طحناً وراء هذه الجعجعة، ثم تبين بعد ذلك، أنه كان ممثلاً بارعاً، وأن “مايلز كوبلند” - أحد كبار موظفي الاستخبارات الأمريكية -، هو من أسهم في كتابة خطبه ضد الولايات المتحدة الأمريكية. وهذه السياسة الباطنية، أشار إليها “تشرشل” حين قال “لستالين”، أثناء لقائهما في طهران - إبان الحرب العالمية الثانية -: “إن الحقيقة ثمينة إلى درجة أنه لا بد من حمايتها - غالباً - بحرس من الأكاذيب”.
لا زلت أتذكر حلقة من برنامج “واجه الصحافة”، الذي يعدّه، ويقدمه - الإعلامي - داود الشريان، واستضاف فيه المتخصص الكويتي في الشأن العراقي، والإيراني، د. عبدالله النفيسي، فكان من جملة ما قاله: “إن المستأثرين بالحكم في إيران هم الفرس”، ثم تطرق تاريخياً إلى جوانب من تحالفاتهم - خلال - فترة الدولة العثمانية مع دول أوروبية؛ لمحاولة الوصول إلى الأماكن المقدسة، مشيراً إلى أن محاولاتهم لم تتوقف، وليس آخرها ما صرح به - الجنرال - فيروز أبادي، الذي أكّد التمسك بتبعية الخليج لإيران، وقال: “إن المؤسسات الصلبة، كالجيش، والباسيج، ونحوهما، تتبع للمرشد الأعلى في إيران مباشرة”، ومذكراً، بأن: نظرية “أم القرى” الإيرانية، التي يقف خلفها د. محمد لاريجاني، والذي وصفه النفيسي، بأنه: “من أخطر الشخصيات التي لا يتنبه لها الخليجيون”، جاءت بطلب المرشد الأعلى؛ لتكون خارطة إيران - خلال الخمسين سنة القادمة -، وكان من أهم معالمها: خلع صفة مكة على مدينة “قم” الإيرانية، وكذلك أهمية الزحف السلمي، والإعلامي، وحتى العسكري على دول الخليج، انتماء “براجماتي”. وأكد النفيسي: أن انتماء إيران للتشيّع، إنما هو في حقيقته انتماء “براجماتي”، حيث يمثل لإيران “حصان طروادة” نحو دول الخليج.
على أي حال، فإنه يمكن تحديد مستويات العلاقة بين واشنطن، وطهران في ثلاثة مستويات، كما يقول - الأستاذ - أحمد فهمي، أولها: المستوى العلني الدعائي، وهو للاستهلاك المحلي، والدعائي، ويتبدى في مصطلحات، مثل: “محور الشر”، و”الشيطان الأكبر”. والمستوى الثاني: نصف معلن، ويتمثل في جهود غير منتظمة، ووساطات، وتطمينات، ومن ذلك: إعلان جلال طالباني - الزعيم الكردي - عن قيامه بوساطة بين إيران، وأمريكا قبل غزو العراق عام 2003م، ونقله للمسؤولين الإيرانيين: أن أمريكا لن تقدم على أي عمل ضد إيران أثناء الأزمة. أما المستوى الثالث، فهو: سري غير معلن، ويتضمن تنسيقات، ومصالح مشتركة، ومساومات، كانت قمة تنسيق المصالح بين الطرفين إبان غزو أفغانستان، والعراق، وبعيداً عن حكومة خامنئي، ورفسنجاني، فيعقدون مباحثات، ومفاوضات مع المسؤولين الأمريكيين في عواصم أوربية، مثل: لندن، وأثينا، وتعلم طهران - جيداً -، أن صراعها مع واشنطن ليس صراع وجود بل مصالح، وهو ما يؤكده رفسنجاني، بقوله: “الولايات المتحدة هي البلد الأهم في العالم، وإيران هي البلد الأهم في المنطقة، - ومن المنطقي - أن يسويا مشكلاتهما”.
وحتى نفهم واقع السياسة الحالية بين واشطن، وطهران، نحتاج إلى معطيات دقيقة، ومعلومات صحيحة؛ من أجل إخضاعها لقراءة نقدية، ورؤية مجردة. فالعلاقة بين الدولتين، تمضي في مسارات بالغة التعقيد، وقد توترت تلك العلاقة الظاهرية بينهما - في السنوات الأخيرة -، منذرة باقتراب لحظة الإعصار، وهو ما رجحه “بات بوكانان”، أحد مرشحي الرئاسة الأمريكية - قبل سنوات - ويستدل على ذلك: بأن زعيمة الأكثرية الديمقراطية في مجلس النواب “نانسي بيلوسي”، كانت قد قدمت مشروع قانون، يحظر على الرئيس الأمريكي شن حرب على إيران من دون موافقة الكونجرس، إلا أن هذا المشروع سُحب فجأة، - وقبل أيام - نشرت صحيفة “نيويورك تايمز”، خبر قيام سلاح الجو الإسرائيلي بمناورات عسكرية؛ استعداداً لهجوم محتمل على إيران. وأكدت مصادر إسرائيلية، أن التدريبات الجوية الإسرائيلية بدأت - منذ - عام 2005م، عندما تسلم قائد سلاح الجو - السابق - “دان حالوتس” رئاسة هيئة الأركان، وحصل على تقرير كامل بتعزيز الاستعدادات العسكرية؛ تحسباً لمواجهة كبرى مع إيران.
وفي المقابل، فإن هناك من يستبعد فكرة الحرب، ويرى أن واشنطن أكثر حرصاً على تماسك إيران الدولة، باعتبارها محوراً “جيوبوليتيكيا” مهماً، حسب تعبير مستشار الأمن القومي الأمريكي - الأسبق - “زبجنيوبر بجينسكي”، - لاسيما - أن أكبر متعهدي دراسة الملف العراقي في إيران، وهي “لجنة بيكر هاملتون”، قد أوصوا بالاستعانة بإيران؛ لإنقاذ الولايات المتحدة الأمريكية من مأزقها الخانق في العراق. وكان الرئيس الأمريكي - السابق - “بوش” قد صرح إبان رئاسته: “إني لا أعتزم مهاجمة إيران قبل أن أغادر البيت الأبيض، وأن ما يتردد عكس ذلك مجرد شائعات مسلية، ومضحكة”، وقد أيده وزير الدفاع الأمريكي “روبرت جيتس”: “أعتقد أن فرص حدوث مواجهة بيننا، وبين إيران منخفضة للغاية”.
إذن، هناك تنسيق في الاستراتيجيات بين الطرفين، فالدلائل - كلها - تشير إلى هذا الخط المشترك، يقول حسين شريعتمداري - رئيس تحرير صحيفة كيهان الإيرانية، ومستشار المرشد الأعلى علي خامئني - في مقابلة أجرتها معه وكالة الأنباء الفرنسية: “إن تقييمنا، هو أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تهاجم إيران، ليس بسبب - الرئيس الأمريكي - جورج بوش، بل لأنه ما زال هناك في الولايات المتحدة الأمريكية بعض العقلاء، الذين سيمنعون بوش من الإقدام على ذلك”، وتابع تصريحه: “إننا نسيطر - كلياً - على الوضع في الشرق الأوسط، وفي العراق، - خصوصا - بعد إزاحة مناوئيها الألداء في المنطقة، كنظام طالبان في أفغانستان، ونظام حزب البعث في العراق، فوجدت إيران - نفسها - القوة الفاعلة، والأبرز في المنطقة دون منافس”.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فلا أحد يمكن أن يجادل في أن الحرب على العراق كانت تكاليفها كبيرة، والثمن غالياً، ومن العبث - حينئذ - أن يستمر التدهور في الاقتصاد الأمريكي، بفعل حرب جديدة على إيران. وفي كتاب مهم، بعنوان: “حرب الثلاثة ترليونات دولار”، يقرر “جوزيف ستيفليتز” - أستاذ السياسة في جامعة هارفارد، والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد -، ومعه “ليندا بيلمز” - خبيرة الموازنة، والتمويل -، أن التكاليف الإجمالية لغزو، واحتلال العراق لامست سقف الثلاثة ترليونات دولار، وكانت النتيجة الحتمية، أن ارتفعت أسعار النفط من (25) دولاراً للبرميل الواحد إلى (146) دولاراً - في تلك الفترة -؛ مما سيزيد على دافع الضرائب الأمريكي، وتراجع الدولار أمام العملات الأخرى، وانحدر بسرعة مخيفة، وتعرض الاقتصاد الأمريكي إلى كساد عظيم، وتضخم مخيف، فارتفع الدَّيْن من (5) ترليونات إلى (10) ترليونات في السنة القادمة.
يتبين مما سبق: أرجحية الأوراق التي تتمسك بها إيران، وعدم الخوف من تهديدات العصا، أو الارتخاء أمام الجزرة في أية مواجهة قادمة نحو الحرب؛ لأن الاتصالات - الأمريكية الإيرانية - السرية متواصلة، - لاسيما - فيما يتعلق بالشأن العراقي، والشأن اللبناني.
drsasq@gmail.com