أقلب عددا من مقالات الرأي في الصحف المحلية والصحف العربية الورقي منها والإلكتروني فلا أجد في الغالب الأعم إلا كتابات يربكها تعقد المشهد السياسي، وعبثا تلهث خلف غباره دون أن تستطيع مثل مقالي هذا شق غبار الغموض المُعمي والسفور المُعشي الذي يطوق تفاصيل الحدث بحيث يستعصي تحديد ملامح الأشباح التي تجر عربة الحدث إلى مهاوي لانعرف عنوان نهاياتها.
وأطيل الوقوف بما أدمنه يوميا من مواقع كتابات الرأي الشبكية وعلى وجه التحديد، منبر الحوار والإبداع وموقع المقال وموقع منشور فأجد محاولات مستميتة لاختطاف بصيص الأمل من حلكة الحدث, فيما نيران الفتنة الطائفية بأنواعها و معارك إعادة إنتاج التخلف وإعادة فجيعة تقسيم المنطقة ونصب خيام جديدة لأيتام الأوطان, تحتدم . كما أجد بعض قناديل النقد التي تتشبث بقشة الغريق لمقاومة زبد الكلام الإلكتروني وسواه من بكم الكلام. أطفال سوريا يذبحون بأيدٍ لم تعد كاميرات الإعلام تستطيع الكشف عن هوية جزاريها, صفقات في العلن والخفاء وعلى رؤوس الأشهاد ، كتابات تتمسكن أمام الطوفان على أمل جبل يعصمها وكتابات بين مكذب ومصدق لقدوم الطوفان بينما يجرف حناجرها هدير الماء والنار . كتابات لاتريد أن تصدم نضال العمر بانصرام أحلام الربيع العربي وكتابات تحاول أن تلعن الظلام ولو برشة من حبر في طوفان الدم, بينما أوطان وإن لم تعترف تنتظر بخفر أو بهلع وتتضرع أن لايأتي دورها في الطوفان المندفع إلى ترقوتها.
****
كنا نقول عن رجال غسان كنفاني بينما كانت شمس الخليج تجفف آخر رمق الحياة في عروقهم لماذا لم يدقوا الصهريج؟؟
وكنا ونحن شبابا صغارا على مقاعد الدراسة الثانوية، حين نقرأ سيرة سقوط الثورة العربية الكبرى مطلع القرن الماضي وتمزق جسد الوطن العربي بين دول الاستعمار الأوربي نصرخ بنزق، لماذا لم يقاوموا التقسيم ونشعر بالحنق على الاجداد في وقت كانوا مطوقين بالأمية والعزلة التاريخية والسياسية والإعلامية حيث لم يعرف خبر التقسيم إلا بعد نيف من الزمن من جريدة البرافدا السوفياتية آنذاك, فما عسى الأجيال التالية تقول عنا ونحن في هذا الوقت المنفتح عبر الجهات الست حين يجدون أننا سلمنا مستقبلهم لمجهول طوفان لم يستشاروا فيه ولم نبذل ما يكفي لتجنبه أو لطرح الأسئلة في خيارات بديلة له. من صدق الكتابة إن لم تستطع تقدم الحدث ولا حتى قيافته، فعلى الأقل ألا تصمت عما يوسوس في صدر المواطن العربي من أسئلة فادحة عن المستقبل، إن كان هناك واحدا.
****
أفكر أحياناً حين أقرأ مقالات الزميلات والزملاء اليومية والأسبوعية الثابت منها والموسمي أو العابر أو ما اصطلح على تسميته صحفياً بأعمدة الجرايد والزوايا الصحفية في عدد من الأسئلة المقلقة التي كثيراً ما يشتد أوارها حين أقف لأراجع شهرياً أو فصلياً أو سنوياً ما خطته يدي من حتوف أو حيوات.
من أحلام صحو وأحلام منام, من آلام أو آمال ومن إحباط ونشوة عام بعد عام بما يتجاوز في جريدة الجزيرة وحدها خمسة عشر عاما من كتابة الرأي الأسبوعية. ومن تلك الأسئلة الصعبة التي لا أشك أنها لابد تشغل كل كاتب رأي يروم أن يكون صديقا للحق والعدل والجمال وصوتا للصمت والكلام الذي يعتمل في صدور الناس أسئلة تلح بالسؤال تلو السؤال حول ما يشغل طرفي عملية الكتابة وعنصريها الرئيسين أي (الكاتب والقارئ) من قضايا وطنية أو عربية وعالمية وما يفتنهما من هواجس جمالية, وما يجمعهما من مشتركات إنسانية, وما يحركهما من إشكالات اجتماعية, وما يختلفان أو يلتقيان فيه من طروحات ثقافية أو ما يتنازعهما من مواقف سياسية وما يثيرهما من قلق اقتصادي أو أمني أو حقوقي وكذلك ما يربطهما أو يتقاسمهما من المواجهات اليومية. أما السؤال الأقسى المشتبك في نسيج مجموع هذه العينة من الأسئلة المشتركة بين الكاتب والقارئ فهو عندما يسأل الكاتب نفسه بينه وبين نفسه ليس إلا, بعيداً عن سلطة القارئ وسلطة الرقيب الإعلامي وسواها من أنواع السلطات الاجتماعية ذلك السؤال الملتبس والحاسم عن مدى نجاحه أو فشله ككاتب في أن يكون متلبسا بهواية الكتابة أو مهنتها حد التورط في نفس الوقت الذي يكون فيه موضوعيا ودقيقا في موضوع ما يكتب حد الحياد المتجرد من كل هوى.
وهذا السؤال السهل الممتنع هو ببساطة ما يعبر عنه بسؤال أمانة الكلمة وشرف القلم وضمير الكاتب سواء في علاقته بالكتابة نفسها أو في علاقته بما يتناوله من موضوعات خاصة إذا كان الكاتب كاتب رأي في القضايا العامة التي تتوجه إلى أو تتماس مع الرأي العام. وهذا السؤال المحوري والأسئلة السابقة عندما تلاحق الكاتبات والكُتاب وتقض مضاجعهم أو تشعل سهرهم فإن ذلك لا يكون ولا يجب أن يكون من قبيل إخضاع الكتابة لمصادرة الرأي من قبل الذات الكاتبة قبل أن تصادره الرقابات المجتمعية, كما أنه لا يكون ولا يجب أن يكون لكي يقوم الكاتب بقص أجنحته بنفسه أو غل ريش الكتابة بأغلال ما يسمى الرقيب الجمعي في مخيلة الكاتب أو مرجعيته الرقابية الجمعية ولكنها أسئلة أطرحها على نفسي بخشونة فيما أكتب عموما وفيما أكتب أسبوعيا هنا، كما أنها أسئلة تطل برأسها حين أقرأ ما يكتب في زوايا وأعمدة الصحف وسواها من كتابات الرأي خاصة تلك المطروحة أو المقروءة عبر وسائل الاتصال المباشر مع الناس كالصحف مثلا بشكليها الورقي والإلكتروني وذلك لممارسة نوع ضروري من محاسبة الكاتب لنفسه بحيث لا يجتر ما يكتب أو يستنسخ ما يكتبه الآخرون وبحيث لا تتحول الكتابة إلى مجرد عادة. وهذه في رأي نوع من أنواع (الرياضة) الضرورية لحيوية ولياقة الكاتب والكتابة معا. وفي هذا أرى أن رياضة الأسئلة والمحاسبة الضميرية والنقد الذاتي رياضة يجب أن يمارسها الكاتبات والكتاب بانتظام حيث لا غنى عنها لمن أراد منا معشر الكُتاب أن يحافظ على حد أدنى من رشاقة القلم فلا نراكم شحوم الرضا بما نكتب ولا دهون القناعة بسقف ما نتطرق له من شؤون بما يربي كروشا للكاتب وللكتابة معا تعيق الحركة وتجعل الحبر متخثرا بالسموم الشحمية السالبة.
وقبل أن أمضي إلى خلاصة الموضوع فلا بد لي من التشديد على ملاحظة أن الكتابة التي أعنيها هنا وكُتابها لا تشير من قريب أو بعيد بل إنها تستثني تماما وبحسم وحزم ذلك المنتج الكتابي المستهلك والمتهالك الذي يمارسه أصحابه بغرض التكسب أو الاستعطاء أو النفاق وتكريس الخنوع عن طريق القلم. وعلى أنني أؤكد أن تناولي لهذا الموضوع هنا يقتصر على ذلك النوع من الكتابة التي لها من الاحترام والحضور ما تستحق معه المناقشة إلا أن ذلك لا يمنع من المصارحة بأنني من واقع المتابعة كقارئة محايدة أو تحاول أن تكون متورطة وموضوعية ما أمكن الجمع بين ما يبدو من النقائض وإن لم يكن بالضرورة كذلك فإنني أكاد أرى أحيانا رؤى العين كروشا منبعجة تطل من بعض المقالات وأكاد أسمع أحيانا لبعض الحروف لهاثا ثقيلا يكشف عما تعانيه بعض كتاباتنا من قلة اللياقة وكثيرا ما أكاد المس لمس اليد كميات من (الكوليسترول) تسبح في حبرنا أو دمائنا نحن معشر الكتاب بما يشي بمدى حاجة الكتابة وحاجتنا ككاتبات وككتاب للتريض بانتظام في هواء طلق ينحت ما قد يتربى حول خواصرنا وأصابعنا من دهون ويعطينا رشاقة تليق بمهمة التحليق التي تتطلبها الكتابة بما يحافظ لنا على لياقتنا أمام ضمائرنا وأمام القراء معا. هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
Fowziyaat@hotmail.com