قدر المملكة العربية السعودية الحميد، أنها دولة إسلامية، ترد اختلافها إلى الله والرسول، وتَحْكم بما أنزل الله، وتحيل السائل غير العالم إلى أهل الذِّكر، بوصفهم حملة القرآن، وحفّاظ السنّة. هذا القدر الثقيل، يفرض عليها الإحالة إلى آليات ومناهج، ليست أولوية عند غيرها، وليست على وفاق تام مع خطابات العصر، ولكنها عاصمة، ومنجية، ومحققة للتمكين في الأرض، متى أخذت بحقها، وبَحَثت عن ضالّتها في مظانِّها.
وقدرها الآخر أنها الأطول عمراً، والأثبتَ أصولًا، والأسمق فروعًا، والأصبرَ عند اللقاء.
كانت قبل ثلاثة قرون إمارة صغيرة، لا يتجاوز حجمها حجم قصر من قصور الموسرين في دول النفط، وأرض تلك الدولة الصغيرة أصبحت اليوم حيًّا من أحياءِ الرياض، بل تحوّلت الإمارات الثلاث المحتربة معها إلى أحياء ثلاثة داخل عاصمة تلتهم الوهاد والنجاد وبطون الأودية ومنابت الشجر.
وبعد أن التقت السلطة مع الدين بحلف يشبه [حلف الفضول] بين المحمّدين: محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب، تجذَّر الحكم وانتشر، وأصبح كخامة الزرع، يميل مع الريح حيث تميل، ولكنه لا يمضي معها حيث تمضي، ولأنها دولة ثابتة الأركان، فإنها لم تُجْتث، ولم تفقد القرار، تُمْنى بهزائم، وتسقط، ولكنها لا تلبث أن تنهض من مجثمها، لتعيد بناء نفسها. وإذ منيت الدولة الأولى في الإسلام بهزيمتين في [أُحد] و[حنين] ولم تزدها هاتان الهزيمتان إلاّ قوة وتلاحمًا وتطهيرًا، فإنّ تلك الدولة منيت بهزيمتين موجعتين، وكانت الحسابات السياسية أنها كفيلة بالقضاء على ذلك الكيان، ولكن القدر يخيِّب تلك الظنون، ويقيل تلك العثرات المرَّة تلو الأخرى. كانت الهزيمة الأولى على يد الدولة العثمانية، التي أنهكتها الحروب، وأضلّتها الخرافة، وقعدت بها عن مسؤولياتها الشيخوخة المتأخرة. وكانت الهزيمة الثانية على يد أبنائها الذين احتربوا فيما بينهم، فسالت دماؤهم، ولم يتذكروا القربى فتسيل دموعهم. ومن ثم فقدوا أنفسهم بعد فقد أرضهم، ولمَّا يطل زمن التيه. فقد انشقت الصحراء عن المؤسِّس، ليعيد بناء الدولة، وفي كل هزيمة تكون المؤسسة الدينية في حالة ضعف أو غياب أو ارتباك عند اتخاذ القرار.
وهي اليوم مغمورة تحتَ طوفان الثورة المعلوماتية، ومنهكة أمام ثورة الاتصالات، وغير قادرة على مواجهة النوازل الطبية والاقتصادية والعلمية والسياسة، لأنها مرتهنة في كتب الأمهات، ومحجوبة أو محتجبة عما جدّ من معارف، ولأني بضعة منها، أتداعى معها بالسهر والحمَّى، فإنّ ما أقول شكاية لا شماتة، وتنبيه لا تثبيط، فإنْ أصَبْت فمن الله، وإنْ أخطأت فمن نفسي والشيطان.
ولربما يكون بإمكانها استعادة قوّتها وحيويّتها وهيبتها وسلطتها المشروعة. وهو ما كنا نبغي، ونتطلّع إليه. ولاسيما أنّ لديها إمكانيات التلافي، وشيئاً من الهيبة، كما أنّ البلاد لا تخلو من علماء أجلاّء، داخل المؤسسة وخارجها. والحل ليس بيدها وحدها، بحيث ننحي باللائمة عليها، إنها جزء من هذا الكيان المؤسّسي لها وعليها، ومريد الإصلاح يبدأ بالخطوة الأولى، فلتكن خطواتها وئيدة، وليكن تحرفها سديداً، مستحضراً لكلِّ المستجدات، مستعدًا للماكرين والمتربصين والمخذلين.
وإذ تجتاح العالم كلَّه موجات من التغيير، وطوفان من التحديات، فإنّ عليها أن تواكب المتغيّرات، وأن تأوي إلى جبل من الاستعداد، يعصمها من طوفان التحديات. وانطواؤها على نفسها، واعتزال الناس وما يخوضون فيه تقليص متعمّد لدورها المنشود.
لقد اندلقت أقتاب الخطابات الفكرية والسياسية والعلمية والدينية، وأصبح العلماء والمفتون يملؤون الرحب، وبدت أعناق الطائفية، وأعيدت قراءة النص التشريعي بعيون شتى، وفُلِيتْ الأمَّهات من كتب السّلف، وقعرت رؤية الهنات، واستحضرت شواذ المسائل، وقربت المفردات والاختيارات، واصطرع المحدثون والفقهاء، والعالمون والمتعالمون، وما من صحيفة أو مجلة أو قناة أو موقع أو طائفة إلاّ وعندها من العلماء والأدباء والمفكرين ما يُفَلُّ به الحديدُ، ويُواجه به أيُّ عالم عنيد. ومن دون ذلك مهرجون من رقاة ومفسِّري أحلام ومتفيهقين ومتطرّفين، وهؤلاء وأولئك يجمعهم الآخر في سلةٍ واحدة، ليشكِّل منهم جميعًا أبشع صورة للإسلام، وهذا الانفلات يتطلّب صلابة في التصدِّي، والتحدِّي والصمود، ومرونة في الاستيعاب والاحتواء، وبراعة في المنازلة والمجادلة والمحاورة، وقدرة على استحضار الدليل، والتوسُّل بالمقاصد، تمشيًا مع مقولة:- [إذا كنت ناقلًا فالصحة، وإذا كنت مدعيًا فالبرهان ].
ولا يجوز أن تكتفي بعد الحكم أو الحسم، أن تقول كما قال الجاهلى:- [ هذا فزدي ] فالناس اليوم متوفرون على مفاتيح العلوم.
والانفجار المعرفي، وثورة الاتصالات، قربت المذاهب والآراء والأحكام، وخلطت الأوراق. والمؤسسة الدينية المغمورة بطوفان المتعالمين والجريئين على الفتيا والمهووسين بمقولة:- [نحن رجال وهم رجال] لا تنفذ من طوفانها إلاّ بسلطان العلم، والعقل، وفقه الواقع، والتمكين والأولويات والنوازل، واللين والرحمة، والدفع بالتي هي أحسن، والتفسّح لكل شاك أو متردّد أو متسائل على حد:- {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6]. فكيف بمن لم يكن مشركًا. فتوطين النفس لا يتحقق إلاّ إذا استحضر المرابط أنه في زمن الغربة والقبض على الجمر، وتذكُّرِ:- {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2].
ولقد يكون من معضلات العصر تكريس المذهبية، وفقاعة الانتماء، واحتكار الحقيقة، وتصنيف المتحرّر من ربقة المذهبية، وإقصاء المخالف في المسائل الفرعية، والعجز عن مواجهة الخطابات، وحسم الخلافات، وأطر السفهاء، وصراع الفقهاء والمحِّدثين، وإن غَرَفوا من عيبة واحدة.
(يتبــع)..