لفت نظري وأنا أبحث عن مواقع سياحية عبر محرك البحث الشهير قوقل فكان أن تفاجأت أثناء البحث بلون جديد من ألوان السياحة ربما يكون معلوم لدى البعض غير أنه بمصطلحه الماثل أمام ناظري يعتبر جديداً ومثيراً للدهشة في آن واحد إنها السياحة الأدبية التي تعد واحدة من أبرز قطاعات السياحة لدى الأمم المتحضرة وهذه السياحة لمن يجهلها لها معانٍ كثيرة ومدلولات أكثر سأتطرق إليها عبر هذا المقال.
بدايةً ورد في مجلة كرونيكل ريفيو الأمريكية مقال للكاتب ريندي مالاميد وتولى ترجمته إلى العربية سعادة الدكتور علي محمد سليمان حيث تطرق الكاتب في مقاله إلى التطورات التي مرت بها السياحة الأدبية عبر مراحل من العصر الحديث حتى وصلت إلى حالة من التضخم والتعقيد بحيث لم تعد تختلف في آليات عملها عن أي مجال اقتصادي آخر تتعدد فيه المصالح والاستثمارات.
فهي على حد قوله تحولت إلى صناعة تتداخل مع آليات السوق. ونتيجة لذلك، أنتجت هذه الظاهرة خريطة جغرافية للتاريخ الأدبي لا تتطابق مع النصوص والحقائق، بل إنها تختلف عنها بشكل متعمد، وفي حالات عديدة تزورها وتحورها لصالح الاستثمارات المالية ودوافع الربح المالي.
وبعيداً عن رأي ريندي حول التزوير الحاصل على مواقع السياحة الأدبية فإننا نعود إلى لب الموضوع ألا وهو التعرف على المقصود بمصطلح السياحة الأدبية .
وقد أشار الدكتور محسن الرملي -الأستاذ بجامعة سانت لويس الأمريكية في مدريد عبر مقال له بصحيفة الثورة السياسية- أشار إلى تعريف يبدو من وجهة نظري أنه الأنسب للتعريف بهذا النوع من أنواع السياحة حيث بيّن أن السياحة الأدبية قد استُحدثت بفضل الأدب أيضاً، «فبفضل المعجبين برواية «البحث عن الزمن المفقود» لبروست منذ عقود وتتبعهم لأماكن سير أحداثها من باريس إلى نورمانديا قد جاءت الانطلاقة العملية للاشتغال على هذا القطاع السياحي. حيث صارت البلدان والمدن والقرى في العالم تستثمر أكثر نتاجات وإرث وأسماء أبنائها من المبدعين مادياً ومعنوياً، ولن تكون كولومبيا في استحداثها للسياحة بقرية «ماكاندو» في روية «مائة عام من العزلة» وكل ما يتعلق بماركيز، أو بيرو في استحداثها للسياحة في الأماكن المذكورة في روايات فارغاس يوسا هما الأخيرتين في هذا المجال. وغني عن الذكر المدن التي تقام وتزداد انتشاراً لشخصيات والت ديزني الخيالية وغيرها. فكل ما يتعلق بهذا النوع من السياحة إيجابياً لكل الأطراف.
وفي الواقع لم يكن الدكتور محسن مخطئاً عندما أشار إلى أن في تلك السياحة نوعاً من البطر خاصة في بلداننا التي لم تُعط، حتى الآن السياحة التقليدية نصف ما تستحقه، فهذه آثار حضاراتنا العريقة على حد قوله مُهمَلَة ومتاحفنا هزيلة ساذجة العرض والتنظيم، بحيث لم تُغرِنا حتى نحن أنفسنا بزيارتها، وجغرافيتنا المتنوعة من زرقة الماء وخضرة الحقول وعلو الجبال وذهبية الصحراء وغيرها متروكة لمصيرها الغامض وسط استغاثات البيئة الكونية من التلوث. فيما يبتكر الغرب حتى قطاعاً لما يسميه «سياحة الكوارث» وينظم سفرات لمواقع البراكين والأعاصير وخراب الهزات الأرضية والحروب، بل ويقيم متاحف لتخليد ذكراها، والقطاع الآخر هو «السياحة الأدبية» والتي قد تدفع بالبعض على سبيل المثال إلى السير في ذات الطريق الذي مشت فيه شخصية أدبية مرموقة مثل «دون كيخوته» ، فيأتي الناس أفواجاً لإتباع دروب طلعاته في الفلوات الأسبانية المذكورة في الرواية، ويمرون بالقلاع والأودية التي مر فيها ويأكلون وجبات الطعام التي أكلها، ومن ثم وصولاً إلى البيت الذي «يفترض» أنه مسقط رأس مؤلفها.. وغير ذلك من تفاصيل جميلة. بل إن بعضهم قد يدفعه ولعه وشغفه بشخصية أدبية معينة إلى زيارة ذات الأماكن والمقاهي والأسواق التي كانت ترتادها بل ويبلغ بهم الأمر في بعض الأحيان إلى زيارة قبورها أو زيارة التماثيل والمجسمات التي أعدت على شاكلتها.
وفي الحقيقة رغم ملاحظاتي على هذا اللون من ألوان السياحة وما قد يتبعه من استغلال و استثمار وجشع تجاري يحد من الإقبال عليه فضلاً عن التزوير الذي قد يمارسه البعض عمداً بغية جذب الزوار لأماكن مزيفة ليس لها أدنى صلة بأي شخصية أو واقعة أو قصة أدبية إلا أنني في المقابل أرى مدى أهمية وفعالية هذه السياحة أسوة بغيرها من ألوان السياحة التي لو أُستُغِلت استغلالاً جيداً فإنها بالتأكيد ستؤتي ثمارها سيما في منطقتنا العربية التي تزخر بالعديد من الأسماء والشخصيات الأدبية العظيمة التي استطاعت بكل ما أوتيت من مهارة وإبداع أن تخلق تأثيراً عميقاً في النفوس وتبني لنفسها مجداً أدبياً يضاهي أمجاد أعظم الأدباء والفلاسفة الغرب... وتجدر الإشارة هنا إلى حدث هام تبادر إلى ذهني الآن أثناء كتابتي لهذه السطور ألا وهو سوق عكاظ التاريخي الذي كان يعد موقعاً سياحياً أدبياً في العصر الجاهلي إذ كان يجتمع تحت مظلته أبرز شعراء وأدباء الجاهلية من مختلف الأقطار حيث يلتقون هناك ويتبارون بقصائدهم في خيمة النابغة الذبياني وفيه عُلّقت القصائد السبع الشهيرة التي عرفت بالمعلقات تقديراً لشعرائها ولتميز تلك القصائد بفصاحتها وبلاغتها وجزالتها على من يحضر الموسم من شعراء القبائل إلى غير ذلك، ورغم مرور السنين على أفول نجم هذه البقعة السياحية الأدبية إلا أن الروح عادت إلى الجسد في ذلك السوق القديم بعد أن تولى صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل إمارة منطقة مكة المكرمة فعمل على إحياء ذلك الإرث الأدبي العريق وقام بإذكاء شعلة ذلك السوق من جديد من خلال مهرجان سنوي يقام كل عام في أيام محددة ويدعى إليه أبرز الشخصيات الأدبية والفنية والأكاديمية وتتنوع فعالياته مابين الأمسيات شعرية والندوات والمحاضرات التثقيفية والتوعوية ومعارض الصور الفوتوغرافية واللوحات التشكيلية إلى جانب المسرحيات التي تجسد شخصيات تاريخية أدبية قديمة كا امرؤ القيس وعنتر بن شداد هذا فضلاً عن السوق الشعبية التي تعرض فيها البضائع المتنوعة والتحف الأثرية من مختلف مناطق ومحافظات المملكة العربية السعودية فكان بالفعل جدير بأن يحتفى به كموقع سياحي أدبي ذو تاريخ عريض لا يختلف اثنان على أهميته وعراقته...
وأختم مقالي بقصيدة شعرية كنتُ قد نظمتها حول سوق عكاظ القديمة وتم تقديمها بلون المجس الحجازي عبر أثير الإذاعة السعودية, القصيدة تقول:
ما أكثر الأسواق حين تعُدُها
لكنها حِسٌ بدون معاني
قد يُبهِرُ الأنظارَ زيفُ قشورها
قد تُعجبُ الأعيانُ بالبنيانِ
لكنما لعكاظ وجهٌ آخرٌ
لكنما لعكاظ شأنٌ ثاني
سوقٌ قديمٌ لم تزلْ أطلالُهُ
تروي بصوتٍ مُطْرِبٍ رنّانِ
تروي وتروي ثُمّ تسكُتُ بُرهةً
وتقولُ آهٍ كلُ شيءٍ فاني
ما كل سوقٍ قد تخلّد ذكرهُ
شتانَ بينَ الشوكِ والريحانِ
سوقٌ عظيمٌ أيُُّ سوقٍ مثلهُ
عنهُ اقرأ التاريخَ في إمعانِ
قد كان يوماً شاهداً ومُعبِراً
قد كان يوماً ملتقى العُربانِ
للشعر والإبداع قامت خيمةٌ
حمراء فيها النابغة الذبياني
وكم التقى الشعراءُ فيها واحتفوا
بقصائدٍ رجحتْ على الميزانِ
وبذلك السوق المبارك كم وكم
حُقِنت دماءٌ من قديمِ زمانِ
وكم الحجيجُ تعارفوا في أرضهِ
وكم التقى القاصي به والداني
كم مرةٍ شهدوا منافعهم بهِ
عرضوا بضائع سائر البلدانِ
تلكم عكاظ ومالسوقٍ غيرها
ذكرٌ يُداعبُ صهوة الفُرسانِ
تاريخه كالنجم في غسق الدُجى
وإذا قرأتُ سطورهً أشجاني
- جدة
njota2000@yahoo.com