سألني أحدهم عن نصف مليون اقترضه من البنك كقرض استهلاكي وهو يملك أرضاً وموعود بالقرض العقاري بعد سنوات ثلاث، أيبدأ البناء الآن أم ينتظر الرهن العقاري؟ فأجبته أن الإجابة الأهم لا تتعلق بالرهن العقاري إنما بالقيمة الشرائية للنصف مليون بعد ثلاث سنين فصاعدا. فأينما اتجهت سيناريوهات نتائج الرهن العقاري من رفع للفائدة أو الأسعار أو خفض كلاهما أو عدم التأثير مطلقاً (وقد شرحت هذه السيناريوهات في مقالات سابقة)، إلا أن كون المتمول لمنزل وهو يملك أرضاً وعظم، فهو في موقف أفضل ممن لا يملك شيئاً. فمنزل العظم يعتبر قيمة تحسب ضمن الدفعة المقدمة التي هي في الأصل أحد أهم ضمانات البنك والتي تؤدي إلى أولوية إقراضه وتخفيض سعر الفائدة عليه مقابل تخفيض المخاطرة على البنك، إن كانت البنوك ستعمل بالعدل والأصول. (ولا يدفع البنوك لذلك إلا رقابة شديدة على أسعار الفائدة أو منافسة شديدة وكثرة في السيولة العاطلة عندها).
وإنما السؤال الأهم هو عن النصف مليون التي اقترضها من البنك، والتضخم المتوقع القادم. فهذه القروض قصيرة الأجل لذا فمخاطر التضخم منخفضة نوعاً ما عن البنوك. فإن انتظر صاحبنا الثلاث السنوات أو أكثر يكون قد سدد البنك غالب القرض وانتهى بنصف مليون عاطل قد أكلته الزكاة و قيمته الشرائية قد بدأت تتآكل ولعلها لا تساوي نصفها في خمس سنوات. فالأفضل أن يستغل المبلغ الآن، وإدراك ما يمكن إدراكه قبل بداية ارتفاع الأسعار العام.
فالتضخم الكبير هو السناريو الأكثر احتمالية مع بدايات تعافي الاقتصاد العالمي من الأزمة المالية. والأسعار إذا ارتفعت بالجملة (أي التضخم) لا تعود إلى الانخفاض إلا في زمن الربط بالذهب.. فانكماش الأسعار العام هو أقوى العوامل في خنق أي نمو اقتصادي إذا كان مُهندسا من البنك المركزي، وأما إذا كان طبيعياً فهو نتيجة للانهيار والأزمات الاقتصادية.
وقد يتساءل سائل ولمَ التضخم شبه حتمي مستقبلاً؟.. فالجواب عن ذلك أن الأزمة المالية التي مررنا بها كان القسم الأكبر والغالب من علاج هذه الأزمة والحد من أضرارها بالسياسة النقدية العالمية، وخاصة الأمريكية. هذه السياسة اعتمدت على تخفيض سعر الفائدة إلى معدل لم يحصل قط تاريخياً. وقد حققت ذلك غالباً بضخ التريليونات من الدولارات. هذا الضخ هو الذي منع من الانكماش الطبيعي العام للأسعار الذي كان لازماً حتميا للأزمة الاقتصادية الحالية لولا هذا الضخ.
والاقتصاد العالمي تبع للاقتصاد الأمريكي وعالة عليه.. وقفزات الاقتصاد الأمريكي تقوم على الابتكارات الجديدة ثم يتلقاها العالم بالتطوير والتحسين والتقليد فيقتات عليها حتى يأت الأمريكان باختراع جديد، وقد تكلمت عن هذا سابقاً. فإن لم يأت الاقتصاد الأمريكي بابتكار جديد، فإن انتعاش الاقتصاد الأمريكي سيظل ضعيفاً، ورفع سعر الفوائد عندها هو المستحيلات.. لأن ذلك كمن يصدم مريضاً خرج للتو من الإنعاش. والتريليونات التي ضُخت في الاقتصاد خلال الأزمة سيظهر أثرها في ارتفاع الأسعار ما لم تُمتص بنمو اقتصادي قوي أو برفع لأسعار الفوائد.
واليوم الجمهوريون يعدون الناس بعدم رفع الضرائب مطلقاً وبسد العجز الحكومي وبتسديد الدين، والديمقراطيون كذلك اللهم برفع بسيط لا يُذكر على الأغنياء. فمن أين لهم هم أو غيرهم هذا إلا بخلق تضخم يرفع اسمياً عوائد الضرائب من جهة ويخفف من جهة أخرى الديون (التي هي في غالبيتها للأمريكان 65% استثمارات الأمريكان والباقي موزع بين الأجانب) فتخفيض الدين سيساهم فيه الأمريكي والأجنبي. والتضخم كان سلاح الأمريكان في أواسط السبعينيات وبداية الثمانينيات -بلغ أكثر من 130% خلال ذلك العقد- والذي استطاعوا به المحافظة على استمرارية ارتفاع أسعر النفط -للتعويض به كغطاء للدولار- كما استطاعوا المحافظة على الاقتصاد من الانهيار، بل وتحقيق بعض النمو -كما هي حال النمو اليوم- وتنفيس بعض ثروات دول البترول، حتى جاءت طفرة الاتصالات فأخرجت الاقتصاد الأمريكي من ذلك العقد، عقد طفرة البترول الأولى والثانية. وهناك مسكوت عنه بشأن الاستثمارات الأجنبية والقرارات المحتملة في قيمة الريال للدولار، إذا بدأنا الدخول في عقد من التضخم كالسبعينيات، وهل يمكننا أن نفعل كما فعلنا في السبعينيات بأن جعلنا البترول هو من يدفع ثمن عدم شعورنا بألم ذلك التضخم، وإلا فالجميع شعر به وأدركه، ولكن البترول هو من تلقى الألم. هذا المسكوت عنه، وبعض التفاصيل الأخرى نجعلها الأسبوع المقبل لضيق المقام.
hamzaalsalem@gmail.comتويتر@hamzaalsalem