كلما بعث لي هاتفي إشارة عن ورود رسالة إليه، تفيض فرحتي، وقليلا ما أتوجس..
إلا الرسالة التي ترد من «نزاهة»، هذه الدائرة التي أنشأتها الدولة لمتابعة فسدة الأخلاق، قاصري السلوك، من طغى عليهم غرور الدنيا، فلهثوا في سراديبها، المنعرجة، المظلمة على غير هدى..
لم أفرح أبدا بهذه المؤسسة حين أقر إنشاؤها في مجتمع كنت أتمنى خلوصه من الفساد..,
وإن كنتُ أثق في وجود الشر يتمتع بها بنو البشر, إلا من هدى الله، ممن أخذ على نفسه فجاهد ضعفها..
والله تعالى لا يريد ظلماً للإنسان، ولن يهديه إلى ضلالة، لكنه تعالى ينظر لما يفعل المرء، فيمد له بما يفعل مداً، حين يتمادى هذا الإنسان في ضلالته.. حتى يلاقي العقاب.. ومثل هذه الدائرة من أجل عقوبة الدنيا.. ويبقى ما بقي من شأن الإله العليم..
والفساد البشري في العمل، تقصيراً، وسرقة، وتجاوزاً، وتهاوناً، وتفريطاً، إنما هو مسلك مشين، من مسالك الذين لا يعلمون بأن هناك عيناً تراهم, وحسابا ينتظرهم، وتحديداً حين يكون هذا إفساد عام يمت بالآخر ممن تطالهم المسؤولية التي أنيطت بالمفسدين, حيث هم رعاة في أعمالهم، أمناء على حقوقها، مسؤولون عن واجباتهم فيها.. ينبغي تنزههم، وانضباط سلوكهم، ومتانة خلقهم..
لذا لم تفرحني هذه الدائرة، لأنها مؤشر صريح، وصادق على الخلل في سلوك ليس يمت للأفراد في خاصتهم، وإنما لمسؤوليتهم في عامتهم..
وذلك خلل كبير في أخلاق المجتمع، يرمي في الخاصرة نصاله.. ويثير حسرة كبيرة في الخاطر..
فالأمانة أول قيمة في خلق المسلم.. والذي نعرف عن أنفسنا أننا مسلمون, قد ربتنا أمهاتنا، وعلمونا في مدارسنا، ونبهونا في صلاتنا، أن الله يرانا إن لم نكن نراه.., وبيننا تقطع يد السارق، ويعاقب المفرط، وينهر البذيء.. ولا يرتضي الإنسان البسيط على الرصيف في الشارع بأي خلل في سلوك طفل يمر بالشارع، فكيف بالكبار وثيابهم منشَّاة، وبياضها يبهر العيون؟
فكيف..؟ كيف وكيف..؟
وعلى مستوى كبير من التفريط في الأمانة ما يتعلق بمقدرات البنى التحتية للمدن؟ والأموال العامة؟ والقوانين، والأنظمة الإدارية.. وانتهاءً إلى التفريط بأرواح الأفراد..، وأموالهم، وممتلكاتهم ..و..,و..
فساد كبير.. وأي فساد..!
إن إشارة الهاتف التي تكون من موقع «نزاهة»، تثير في داخلي الكثير من الامتعاض، والشعور بالقرف, إذ هي تنبهني كلما حسبت أننا مجتمع أخلاق، بأننا لسنا المجتمع الذي يحرص كثيراً عليها والتنزه من فسادها, وبأن مجتمعنا المسلم في وجه الشمس، يتصدع جدار أخلاقه في شرايينه، بدل أن لا يكون فيه إلا اللمم مما يعتور طبيعة الإنسان..
إن هذا الإنسان ليقلق كثيرا، في ضوء هذا الواقع، ويبعث السؤال السِّكين: كيف وصلت أمانة المسؤولين الذين تستدعيهم «نزاهة» لمنصات التحقيق إلى متابعة عامة لم تقتصر على القلة في المجتمع, بل اتسعت المتابعة عنهم إلى رسالة عامة ترد لكل فرد، في عموم الرسائل الهاتفية؟
إنه مؤشر يقلق, ورسالة تورد للنفس اكتئابا، نحن في غنى عنه مع كل ما يحدث على الأرض..
أما أنا فأتأسَّى، من منطلق حلمي الكبير، بنزاهة شاملة لمجتمع كنتُ ببراءة جهل، أحسب سلامته من أدوائه..
فارأفي بحلمي يا «نزاهة.»..!
عنوان المراسلة: الرياض 11683 **** ص.ب 93855