ازدهرت في المملكة تجارة الدم، وتجارة الدم هنا لها تعريف مختلف هي باختصار عتق الرقاب من السيف الأملح! وعقوبة القاتل بالشرع الذي هو المصدر الأساسي للأنظمة والقانون، القتل بالسيف وهذا الحد الشرعي يُطبق إذا لم يتم الصلح بين القاتل وأهل القتيل، والنظام قرر دية لا تتجاوز 400 ألف ريال سعودي تدفع لذوي القتيل ويمكن أن يزيد المبلغ للحصول على عفو، والزيادة تصل في أحيان كثيرة أرقاماً فلكية،
ويتدخل الأمراء والوجهاء والأعيان حتى يقبل أهل القتيل التنازل.
معلوم أن مجتمعنا ما زالت تسيطر عليه الحالة القبلية، وهذا لا يعيبنا ولكن أن تؤسس الحالة القبلية لشكل جديد للإثراء، وشكل مبتذل للاستغلال الذي يحظى بغطاء قانوني، فهذا غير مقبول إطلاقاً، وكيف نقبل بأن تستغل الدماء لتحقيق مكاسب دنيوية بجشع، وأن تدفع الأموال الكثيرة في غير مكانها، بلا رادع تحت شعار عمل الخير!.
ليس جديداً علينا سماع الأرقام الفلكية لعتق رقبة بعشرين وثلاثين مليون وأكثر واتضح في شهر رمضان الفائت أننا نعاني من مشكلة استفحلت وكبرت أمام أعيننا، ولم نستطع حلها لأن البعض ألبسها ثوباً دينياً ليحصن مصدر رزقه، فكثير من الوعاظ انشغل بصفقات الدم هذه لتحقيق مكاسب خلف ستار وساطة الخير وعمل المحاماة! والأرقام الخيالية أغرت بعض أولياء الدم وأصبحوا يغالون في الدية ويطلبون الأعلى، وربما نسمع قريباً عن رقبة تعتق بمليار ريال!.
وبما أن لصاحب المظهر الشرعي قبول اجتماعي، في مجتمعنا المتدين بالفطرة، يطلب أهل القاتل من أحد المستشيخين الدخول في القضية للحصول على المبلغ الذي يطلبه أهل القتيل، وبعد الاتفاق على المبلغ، يهرع فضليته إلى مكتب هذا ومجلس ذاك لتجميع المبلغ، وكلما كان المستشيخ مجيداً في تسويق القضية وبيع الكلام، يحصل على ما يريد، وفي الوقت الذي يحصل فيه على نسبته من المبلغ “وهنا لا أعمم لأن هناك من لا يقبل بنسبة من المبلغ” يحصل أيضاً على المجد الإعلامي وبأنه وسيط الخير، ومبتغي أجر الله وحده!.
من الإنصاف أن نذكر مجهودات الدولة في عتق الرقاب، ولكن يجب أن لا يبقى هذا الأمر على هذا الحال، وأن لا تبقى مجرد قضية اجتماعية يتولى أمرها، الأمراء والمقتدرون بحسن نية وبدون تكليف رسمي، وهي مجهودات مشكورة، يجب أن نعي أن ما نعانيه من مغالاة، أسس لتجارة سيئة وهذا يحتاج وقفة حاسمة، وقرارات حازمة.
أعتقد أننا بحاجة لتأسيس لجنة وطنية تشرف عليها الدولة، وتضم جميع لجان الإصلاح في مناطق المملكة والمهتمين والمتطوعين في هذا المجال، إضافة للقانونيين والشرعيين، ليكون تحت إدارتها كل ما يتعلق بالديات ومفاوضاتها وأحكامها، لضبط الأمور وتيسيرها، وأقترح أن يكون مسماها “اللجنة الوطنية للديات والعفو”، وهذه اللجنة يمكنها معالجة هذا الأمر بأسلوب شرعي وقانوني واجتماعي يقبله الجميع، بدعم ومباركة من قيادة البلاد.
Towa55@hotmail.com@altowayan