لعلي وأنا أقف على شرفة الحنين.. على شفة غيمة ربما تأخذها الريح لتستقر بها في سماء نجد.. أتذكر البيت الشهير لصقر قريش عبدالرحمن الداخل:
أيها الراكب الميمم أرضي
أقر من بعضي السلام لبعضي
فأقطف من نبض قلبي حفنة وأرمي بها للبحر القريب من مرمى البصر ليحمل نبضي فيوصله على أشرعة الموج إلى الديار التي تنتمي روحي.
وحين تداهمني نخلة من نخلات المكان الذي أنا فيه صدفة، تصيبني الدهشة والغربة، فأشعر بي وبهذه النخلة غريبين عن موطننا وتحضر أبيات الداخل:
تبدت لنا وسط الرصافة نخلة
تناءت بأرض الخرب عن بلد النخل
فقلت شبيهي في التغرب والنوى
وطول التنائي عن بني وعن أهلي
نشأت بأرض أنت فيها غريبة
فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
فكأنني غريبة وحيدة إلا من الذكريات تصلني بديار نجد وبما تركت مني هناك وكلما أغلقت عيني وأردت استسلم للنوم استفقت على صوت ذاكرتي وحنيني بأن عودي.
المكان بتفاصيله يسكن الذاكرة ويستوطنها، المكان هو الكيان وهو الانتماء وهو ميقات وذاكرة وهوية، المكان الذي نعشق وننتمي هو بوصلة كثيرا ما ترشدنا للعودة إن طالت بنا المسافات وأبعدتنا عن ديار هي الحياة والماضي والحاضر والقادم.
اعتل سابور ذو الأكتاف بالروم وكان أسيرا، فقالت له بنت الملك وقد عشقته: ما تشتهي؟ فقال شربة من ماء دجلة ويمينا من تراب اصطخر، فأتت له بعد أيام بما اشتهى، فقالت له: هذا من ماء دجلة وحفنة من تراب أرضك، فشرب واشتم التراب وزال عنه الوهم والهم، ففاق من علته.
لعل في تراثنا العربي دلائل كثيرة على هذا الوجد والحنين للديار والوله بها وقد كان الشعر كما استشهدت ببعضه دليلا وسبيلا لتوثيق ذاكرة المكان والأوطان.
ولعل الرياض تحضر مع أجمل ما قرأت عنها وفيها للراحل الكبير غازي القصيبي حين يشبه محبوبته بها.. كأنك أنت الرياض.
القارئ العزيز.. قادني حنيني اللحظة إلى ضفة القلب وموطن الذاكرة وقبلة الروح وحنين الذكريات.. فاشتقت لسماء نجد الصافية، لنسيمها، لليلها، لصخب نهاراتها وزحمة شوارعها التي كنت أضجر من الانتظار فيها، فهل لك أيها القارئ الكريم أن تعبئ لي زوادة بهوائها وقبضة من غيمها العابر سماءها، وحفنة من القصائد التي قيلت فيها وعنها ومن نجومها ثم ترسلها مع الريح المسافرة علها تلقي بها قرب نافذة أطل منها على شرفة الشوق والحنين؟
قال عبد الله بن المبارك - رحمه الله - كما روى الإمام الحاكم: إنّ من أقام في مدينة أربعُ سنين فهو من أهلها، وروي ذلك عن غيره أيضاً؛ والله أعلم.
وقد رويت لكم حكاية عشق منذ ما يقارب الخمسة وعشرين عاما.. حفظ الله أوطانكم..
من آخر البحر:
سأنام ملء العين أنت
فإذا تراخى الليل وانتصر النهار
سأقول يا ليل الخديعة احتسب
ألا يضيع الحلم في وسط الزحام
mysoonabubaker@yahoo.com