وإذا كان الكتاب قد بدأ بوصفه صورة من صور علاقة العلماء بالوزراء وأهل السلطان، فإنه في الوقت نفسه يبين منزلة العالم في صاحب السلطان نفسه، أو من يجالسه من المتأدبين، خاصة في مقولة أبي الوفاء التي خاطب بها أبا حيان، كما بين فيها المواهب التي تأخذ المحل الأعلى والقيمة الأسمى في تقدير العلماء وميزانهم، إذ يقول:
«ولعلك في عرض ذلك تعدو طورك بالتشدق وتجوز حدك بالاستحقار، وتتطاول إلى ما ليس لك، وتغلط في نفسك، وتنسى زلة العالم وسقطة المتحري وخجلة الواثق، هذا وأنت غر لا هيئة لك في لقاء الكبراء ومحاورة الوزراء وهذه حال تحتاج فيها إلى عادة غير عادتك وإلى مران سوى مرانك، ولبسة لا تشبه لبستك»...
إلى أن يقول:
«أتظن بغرارتك وغمارتك، وذهابك في فسولتك التي اكتسبتها بمخالطة الصوفية والغرباء والمجتدين الأدباء الأردياء أنك تقدر على مثل هذه الحال».
فهذه المقولة تبين أن الصفات التي تميز أبا حيان وأمثاله من العلماء كالعلم والعقل، والحكمة، وسداد الرأي لا تعني شيئاً يذكر في تقديره، ولا قيمة لها في مقابل الصفات التي تعني الإحاطة بأعراف المجالسة، وطرائق المخاطبة، والمخالطة مما يأخذه المرء بالاعتياد والدربة، وكأنهم بذلك مساوون لسائر أرباب الصنائع.
على أن مقولة أبي الوفاء لم تبلغنا على وجه التحديد، وإنما التي بلغتنا مقولة أبي حيان على لسان أبي الوفاء، مما يعني أن أبا حيان يتحدث عن نفسه بهذه النعوت التي أوردها، والحالة التي بينها، ولأنه ينسبها إلى أبي الوفاء فهو يحاول أن يتبطن تلك الصورة عند الذين لهم صلة بالسلطان، والتي تتمثل فيما قاله في وصف نفسه، وهو لا يكشف بهذا الخطاب صورته وحده وإنما يكشف عن موقف العلماء والمثقفين الذين تنطبق عليهم بالضرورة صورة أبي حيان، وهو ما يعني أنه - أبا حيان التوحيدي - يريد أن يقول: إن هذه الصورة هي حال العلماء، وهذا وضعهم على الرغم مما يبدو من تقريبهم ورفع مستواهم.
ومما يدل على ذلك أن هذه المقولة لا تنطبق على أبي حيان على وجه الخصوص، فقد جالس عدداً من الوزراء قبل ابن سعدان، وكان يغشى مجالس الأمراء والوزراء في بغداد، حينما كان الوزراء والأمراء يحرصون على جمع أهل المعرفة والعلم والأدب حولهم، ويروي ما يدور في مجالسهم، وقد يشارك في بعض المناقشات الدائرة، وتوقف مجالسة أبي حيان لابن سعدان ليس بسبب انصراف الأخير عنه، وإنما بسبب ما أصابه بعد ذلك.
ولذا لا نعجب أنه في الوقت الذي يمن فيه أبوالوفاء على أبي حيان في وصله بأبي عبد الله العارض، نرى أبا عبد الله لا يخفي معرفته السابقة به، وتشوقه للقائه، وسماعه أخباره، وقد يكون ذلك بسبب أبي الوفاء الذي ملأ سمع أبي عبد الله في الثناء على أبي حيان ووضع تلك الصورة في ذهنه، ولكن موقف أبي عبد الله العارض بعد ذلك، بل وقبله أيضاً مختلف عن موقف أبي الوفاء في التقرب إلى أبي حيان والإفساح له في المجلس، والانبساط معه، ورفع التكلفة تقديراً منه، والعمل بآرائه، وإخباره بأنه كان يسمع عنه، ويتسقط أخباره، بل إنه تأثر بحكاية رويت في مجلسه عن أبي حيان تتصل بابن بقية من قبل أن يلتقيه مما جعل أبا الوفاء نفسه يمتلئ بالغيرة من أبي حيان.
وبعد هذه المقدمة الهامة التي ذكرها أبو حيان في سبب تأليف الكتاب نجد الليالي مبنية على سؤال وجواب، وكثيراً ما كان الوزير يطلب من أبي حيان أن يستعد في البحث في مسألة معينة للحديث فيها في اللقاء القادم، وكأن الوزير قد تفرغ في لياليه كلها للقاء أبي حيان، وللاستماع لمؤانسته، وكان أبو حيان يحاول أن يتحدث في كل صغيرة وكبيرة كما يبدو، ويخرج عن الموضوعات التي تنفتح ليجعل الموضوعات أكثر عمقاً، لكنه يظل في موقعه موقع المؤانس، فإذا ضممنا هذا إلى حال العلماء والمثقفين، والأدباء كما صورهم أبو حيان، وعنون الكتاب وجدنا أن أبا حيان يقول إن حالهم لا يعدو أن يكون حال المؤنس الممتع في ساعة الخلوات وصفاء البال، ولا يعول عليهم على وجه الحقيقة.