ابتداء...نناشد سمو وزير التربية والتعليم الأمير فيصل بن عبدالله بن تركي بالوقوف على كارثة المستوى الضعيف لطلابنا وطالباتنا في الخط العربي والإملاء مما ينذر بنمط صعب ونمط مخيف- كما قال العلامة أبو فهر محمود شاكر- يهدد الهوية السعودية والعربية والإسلامية بالانسلاخ على المدى البعيد...
يا سمو الوزير... حينما قال ابن المقفع: “الخط للأمير جمال، وللغني كمال، وللفقير مال” لم يكن يدرك أنه سيأتي زمان على الناس يزهدون فيه بهذا الفن العريق، في صورة واقعية مؤلمة تختلف عما تميز به الخطاطون في عصور العربية المختلفة حينما نجحوا في الجمع بين إبداع الصورة وجمال المعنى من خلال ما يلغزونه في فنون الخط العربي ويمشقونه مشقا حتى حملقت في روعته المقل، والمذهل انحسار هذا الفن من نفوس الطلاب اليوم بسبب صرفهم عن علوم العربية بعامة ومنها الخط العربي في صورة تختلف عما كانت عليه المناهج قبل عقود حينما كانت كراسة الخط العربي الأشبه بكراسة الخطاط العراقي هاشم البغدادي مميزة في حقائب طلاب وزارة المعارف في فترات التسعينات الهجرية وما بعدها بشكلها المستطيل، والأجمل نصوصها التي تم اختيارها وكتبت بطريقة تسلب لب الأطفال كلوحات جمالية تعودهم على اكتشاف الجمال ،الذي يعزز القيم الثقافية والأخلاقية والإسلامية والوطنية مما يساعد التربويين على غرس أهدافهم في صياغة أجيال قادرة على تحمل مسئولياتها من خلال تعزيز الثقة بأمتهم وموروثها...
صدقا يجب أن يدرك المسئولون أن الضعف يعتور طلابنا في هذا الوقت الذي يؤكد فشل مخرجات التعليم بعامة ولاسيما في الخط والإملاء في صورة تنذر بخطر عظيم يهدد الهوية في صميمها، وهذا الضعف متفق عليه من الأساتذة جميعا في مراحل التعليم المختلفة حدا بلغ المستوى الكارثي، وبخاصة في ظل سيطرة الأجهزة الإلكترونية والحاسبات الآلية واستعمال الكيبورد في الكتابة مباشرة والاستغناء عن الكتابة باليد تماما حتى أصبح كثير من التربويين يعد الاستغناء عن الكتاب المدرسي وقلم الرصاص ميزة وتطورا مما أدى إلى فقد الفئات المستهدفة من الطلاب والطالبات الدربة على الخط والإملاء، وكانت المحصلة بسبب ما يسعى إليه التربويون وحدهم انحسار الاهتمام بالخط العربي الذي يعد من أنفس ما تملك هذه الأمة فهو الذي أبهر العالم المتمدن بكل أطيافه حتى صرخ بيكاسو ذات يوم أمام جبروت هذا العملاق قائلا:” أقصى نقطة في الفن وصلت إليها وجدت فيها أن الخط العربي سبقني إليها” ونقل عنه أيضا: “أعترف أن آخر نقطة وصلنا إليها في التجريد، سبقنا إليها الخط العربي بأزمنة بعيدة” مما يحتم علينا في هذا الوطن وبخاصة أنه موئل العروبة ومهد الإسلام ومركز الحضارات الاهتمام بهذا الفن الجميل عن طريق مؤسسات التعليم العام والعالي لنحقق الصدارة ونصبح الموطن الأول لهذه الفنون الإسلامية انطلاقا من مسئولياتنا التي تؤكد أننا تأخرنا كثيرا في صياغة هيئة عليا للخط العربي والزخرفة الإسلامية ومجمع للغة العربية يؤدي كل منهما دوره الحضاري الخالد في الداخل والخارج على السواء لإكمال مسيرة ابن مقلة وابن البواب والمستعصمي والأماسي وراقم وسامي وحقي وحامد في تركية وبدوي الديراني وهادي الحمصي وعثمان طه في الشام وسيد إبراهيم وحسني البابا في مصر، وهاشم البغدادي في العراق وعدنان الشيخ عثمان وتلميذه محمد الحداد..على أنغام حكايات عثمان طه الذي قبل يده الشيخ متولي الشعراوي لأنها يد خطت كتاب الله وجبروت هذا الفن الذي جعل الخطاط التركي سامي يقول: “درست الخط أربعين عاماً، لأتذوّق عظمة راقم”، وحمل الخطاط حامد الآمدي على أن يقول في أخرياته: “ما دام في الجنة قصب وأوراق فلن أبالي بالموت”...الخط العربي بأشكاله الثلث والديواني والرقعة والكوفي والفارسي شأنه شأن بقية الفنون الإسلامية التي تشهد منا إعراضا وتهميشا وزهدا بينما كان إتقان الخط العربي في عصور ازدهار الأمة من شروط كمال الخلافة عد العثمانيين مثلا ولازالت مخطوطات القرآن الكريم التي كتبها أولئك الخلفاء من أنفس إرثهم الإسلامي الذي لا يقدر بثمن، وتشهد تلك “الخطوط المقدسة” على العلاقة بين الخط العربي والدين الإسلامي الذي أعطى البشرية السحر والجمال والجاذبية، تلك العلاقة التي طالما استوقفت الناظرين مفاتن ريشة خطاطيها وروعة انحناءات خطوطهم وحديث أصالتهم في لوحة منقوشة على جدار مسجد أو عبارة على رق تهادته أيدي خلفاء هذه الأمة أو غلاف مصحف مذهب ينطق بالبهاء والشعاع الناعم، ولم يقتصر جمال الخط العربي على المسلمين بل تجاوزهم إلى الأمم الأخرى، فنقشت به أبواب الكنائس ونوافذها والكاتدرائيات وقصور النبلاء في صقليه وإيطاليا وألمانيا وفرنسا وفيينا وأمستردام، يؤكد ذلك قول الكاتب الفرنسي مارسيه معترفا بفضل حضارة العرب: “لقد كانت الحضارة العربية الإسلامية شديدة التغلغل في عالمنا حتى إن العناصر الإسلامية طغت منذ نهاية القرن الحادي عشر في واجهات الكنائس الرومية ثم رأيناها فيما بعد تختلط في الكنائس القوطية مع العناصر الواردة من فرنسا” كما شهدت المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه بعظمة الخط العربي والفن الإسلامي في كتابها شمس العرب تسطع على الغرب الذي يشهد بعبقرية الإنسان من خلال رسم الحرف العربي والزخرفة الإسلامية على محراب مسجد أو بوابة متحف أو حمام أو قبة ضريح أو تطريز على ثياب ملك من ملوك الحضارات الإنسانية، ولا أدل على ذلك من شهادة الخط العربي على أجمل هدية تلقاها الملك فريدريك الثاني من أبيه، وهي عبارة عن ثياب جميلة مطرزة الأذيال والأردان بخط عربي أنيق، يقول فيه الخطاط بعد أن انتهى من نسجه وتطريزه: “بمصنع الملك مقر الشرف والحظ السعيد، مقر الخير والكمال، مقر الجدارة والمجد، في مدينة صقلية عام 528هـ”.
صدقا من العار والخجل أن يطلب الناس أسرار الخط العربي والفنون الإسلامية عند الفرس والتركمان والأتراك والأمم الأخرى التي قدمت للحضارة الإسلامية ما يعجز عنه الوصف فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا، والأولى أن تكون المملكة العربية السعودية حاضنة العروبة وموئل الإسلام هي المصدر الأول في الحفاظ على علوم العربية وكنوزها الثمينة، ويجب أن يكون لنا كسعوديين بصمة خالدة في جبين الحضارة الإنسانية وبخاصة أننا نملك مقومات الإبداع والتميز والخلود مما لم يملكها العثمانيون والفاطميون والأندلسيون والفارسيون وغيرهم مما أضاف نوعا للخط العربي أو طور زخرفة إسلامية أو تميز بفن من الفنون، كما أنه من المخجل أننا لا نملك أيضا بصمتنا في فن العمارة الإسلامية وبخاصة مساجدنا التي لازالت تبنى على الطراز المغولي والعثماني وغيرهما مما خلدته حضارات الإسلام السابقة، فلماذا لا يكون للسعوديين طرازهم في العمارة والفنون الإسلامية بعامة...؟؟؟
abnthani@hotmail.com