والمتهرطقون وغيرهم لا يقطعون بمصير محدَّد, فتقلُّبات الأوضاع والمفاجآت, تأتي بما ليس في الحسبان: [وتقدرون وتضحك الأقدار].
والنظام السوري الذي فَقَد مشروعيته, لا يقاتل من أجل استعادتها, ولكنه يود أن يوهن الثوّار, فهو لا يريد غير ذات الشوكة, ليحتفظ فيما بعد بتوازن القوى, وليكون قادراً على التكتُّل الطائفي, وجعل [القرداحة] بإزاء [دمشق]. قد يقال بأنّ هذه التخرُّصات من باب الهرطقة السياسية, وحتى لو مضينا مع القائلين, فإننا نود من الممانعين إعادة قراءة الأحداث وتطوّراتها, للتخفيف من حدّة السخرية.
الشيء الذي يجب أن يعرفه المتابعون أنّ [أمريكا] لا ترضى لنفسها النهوض بمهمة الشرطي, المتهيئ لمواجهة أيّ انهيارات سياسية في المنطقة, وهي إذ لا تكون كذلك, فإنها ذات مصالح في المنطقة, وهي قادرة على إدارة أزماتها بالقوة الخشنة أو الناعمة, ونظرتها في النجوم السياسية, تختلف عن نظرة غيرها من ذوي الشأن, أو من نظرة المراقبين الجادين أو الفضوليين.
والذين لا يهرطقون, يُنْحون باللائمة على الغرب, ويرون فشله في إدارة الأزمة, وظنُّهم الذي أرداهم أنه مسؤول عما يتفجّر في المنطقة من فتن طاحنة, وتلك التخرُّصات هي عين الهرطقة. فالغرب إذ لم يكن وصياً ولا شرطياً فإنّ له مصالح, ولا يمكن أن يكون إنفاقه من أجلها يفوق مكاسبه منها, وتجربته الخائبة في [العراق] و[أفغانستان] جعلته يفكر ويقدّر, وقد يتهيّب المغامرة, وإن لم تكن محفوفة بالمخاطر, على حَدِّ: [من خاف سَلِم].
والنظام السوري لم يتلقَّ تأييداً من الغرب, ولا موقفاً جاداً منه, كما أنه لم يكن في تصدِّيه للثوار لاعباً, وحساباته أنّ الغرب لن يتدخل عسكرياً, وسمعته المتشوّهة من قبل ومن بعد, تجعله لا يبالي, وكيف للغريق أن يخشى من البلل؟ ولهذا فإنه سيظل يصعّد من عنفه, وحساباته تتحكّم بها مقولة:- [عليَّ وعلى أعدائي], والزمن في خدمته, فكل يوم يمر, يقضي فيه النظام على شطر من إمكانيات الثوّار البشرية والمادية والمعنوية, كما أنّ اللجوء إلى المجالس الأممية يمكنه من الإثخان في الأرض, وخيارات الحل واستقالة مندوب وترشيح آخر, وملاحقة السراب, تذهب ريح الثوار, وتقلل من معنوياتهم. والنظام يعرف أنه ماضٍ إلى الهاوية, غير أنه لا يريد أن يكون ثمن المضي هيناً على خصومه, ولقد تكون حساباته أنه باقٍ كطائفة ملتفّة على نفسها, لا تمانع دول الجوار من قيامها. بوصفها من الحلول المرّة, التي لا مناص منها على البعض، وقد تكون من الحلول المعسولة على البعض الآخر.
ولتكن كل هذه الحسابات هلامية, غير أنّ الثمن الباهظ الذي يدفعه الثوار, لا يمكن أن يعوّض. ولقد يكون من مصلحة الثوار اختراق الطائفية, وإشعارها بأنها جزءٌ من هذا الشعب, وأنها لن تضار في شيء بعد سقوط النظام الطائفي, عسى أن تتخلّى الطائفية عن هواجس الانتحار أو الانفصال, ولكن من يملك هذه [الدبلوماسية] الاستدراجية, ولاسيما أنّ الثوار أنفسهم لم يتفقوا على شيء سوى إسقاط النظام.
ومن نكد الدنيا على الثوار أنّ الذين مع النظام يرون معيّتهم مصيرية. فـ[إيران] تشكِّل نهايةُ النظام نهايةً لمشاريعها التوسعية. و[روسيا] تحلم بالندية مع [أمريكا], وسقوط النظام تحويل لتلك التطلُّعات إلى أضغاث أحلام, و[حزب الله] من أجِنَّةِ النظام ومن ثم فإنه يموت بموته.
ولما كان لكلِّ جهة نظراتها, وحساباتها ومنْطلقاتها ومصالحها, ولكل حزب فرحه أو ترحه, فإنّ التوقعات تختلف, والرهانات تتباين, وتناقضها يجعلها عند المخالف من الهرطقات السياسية.
واليوم وقد توفّرت وسائل الاتصال, وهيئ لكلِّ شقي أن يَعوُجَ إلى ما تهواه نفسه, فإنّ احتمال التوصيف المدين بالهرطقة, لم يَعُد مقبولاً, ولاسيما أنّ الخوض في المقترف السياسي ينزع عن الخائضين شطراً من مسؤولياتهم عما يقولون, إذ ما من مقترف إلاّ وله أكثر من قراءة, فالسياسة [فن الممكن] والعقلاء المصطلون بنارها, يتبرؤون من كلمة ساس ويسوس وما تصرف منها. وكم نفكر ونقدّر, فنخطئ, حيث يكون التفكير والتقدير, وعيب المتوقعين والراسمين لخرائط الطريق الاستبداد في الرأي, واحتكار الحقيقة, وعدم التفسُّح لِسنَّةِ التداول والتدافع, خوفاً من الخسران المبين. فكل متداولٍ للحديثِ عن المتغيّرات السياسة, يهيئ لنفسه المكان المناسب في تصوُّر المستقبل, ومصائر الأمور, ولا يفكر بأنّ الإمساك والإرسال بيد الله وحده, فلا ممسك لما أرسل, ولا مرسل لما أمسك, وكأنّ الله عناهم بقولة تعالى:- {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ(39)} (القلم).
ومن المهرطقين من يقول: إنّ “أمريكا” و”إيران” حليفان, لإنجاز عمليات قذرة, وأنّ إيران تتولّى كِبْر التجهيز لشرقٍ أوسطي جديد, تكون فيه الآمر الناهي والمفاوض, ومنهم من يقول: [تركيا] جادّة لإعادة الخلافة, وآخرون يقولون: إنّ خروج مصر من زعامة الأُمّة العربية مؤذن بصراع طويل الأجل, لملء الفراغ. بل إنّ من المهرطقين من يقول: إنّ “أمريكا” هي التي هدمت بُرْجَيها التجاريين, لتمتلك مشروعية التدخُّل, لوقف الزحف الإسلامي, والسعي لعودة [الدولة الصفوية], التي تحد من المدِّ السَّنيِّ. وكل ذلك من الهرطقات التي لا سند لها, ولكنها متداولة، شئنا أم أبينا, وقد يكون لشيء منها نصيب من الصواب.
المخيف أنّ السفينة تجري على الماء وعلى اليبس, والكل محكوم بالإرادة الكونية الإلهية, وما علينا إلاّ الإلحاح بالدعاء, ألاّ نشهد تلك التنبؤات المرعبة.
ولقد سمعنا عن [بلد الحرمين] من الهرطقات ما يشيب له الوليد, وكلما استحكمت حلقات الفتن, قلنا هذه النهاية, ولكن الله يدافع عن الذين آمنوا, ولما نزل نردِّد مقولة الرسول صلى الله عليه وسلم لرفيقة في الغار:- [ما ظنك باثنين الله ثالثهما], وكيف لا نتفاءل, والله عند حسن ظن عبده فيه. وهل من الهرطقة التحسُّس عما سيكون بعد سقوط النظام السوري..؟. فالرغبات الآن كلها محصورة في إسقاط النظام, وحين يسقط, أو تنفصل الطائفة, تنبعث رغبات أخرى من مراقدها, وقد يحترب المشاركون في الثورة فيما بينهم, بذات العنف والدموية. وحينئذ تجد البلاد نفسها داخل فوضوية ثورية, مثلما كان في [ليبيا] ومثلما هو كائن في بقاع أخرى, وقد تتفاوت الحساسيات من تلك التنظيمات, فينشق الصف العربي, وتتدخّل كل دولة لمناصرة من يوافق هواها, فا [الأدلجة] لا تقبل [اللبرلة] و[الغربنة] لا تقبل [العوربة]. وتلك مصائب الثورات التي لا تضع [أجِنْدتها] ثم تنطلق منها ولها. وهذا الربيع العربي, فَمْن من الربيعيين من انتقل من روح الثورة الصاخبة إلى هدوء المدنية الراغدة؟
إنّ من حق كل متحدث أن يتخفّف من جد الحديث إلى هرطقة توصف بالسخرية, على حد:- [لا بُدَّ للمصدور من فيضان].