عالم السياسة عالم عجيب غريب، فليس كل ما يعرف يعلن وليس ما يعلن هو ما هو معروف، فرقم الرأي العام مجال صراع بين القوى السياسية المختلفة. وقد نبه لهذه الحقيقة عراب السياسة الانتهازية نيكولو ميكيافلي الذي ربط الوسيلة بالغاية فقط وليس بالأخلاق،
وجوزيف قوبلز عراب الإعلام السياسي الحديث الذي ربط السياسة بالدعاية لا العكس، أو فلاسفة مثل ليون شتراوس الذي رفع الكذب على العامة الغوغاء إلى مبدأ سياسي مبرر مادام الهدف نبيل لا تدركه الغوغاء وتدركه النخبة، أما تشرتشل فكان يرى التحالف مع الشيطان في سبيل المصلحة حكمة سياسية.
في السبعينات إبان حرب فيتنام، دفع تصوير الضحايا من الجنود الأمريكيين تلفزيونياً إلى ما يشبه الثورة في أمريكا، وتغلبت هذه الصور على الدعايات الإيديولوجية الرسمية بأن الحرب كانت حرب خير الرأسمالية ضد شر الشيوعية. وحشدت وسائل الإعلام الحديث ذاتها، التي كانت من أهم منتجات النظام الرأسمالي الدعم لأمريكا في حروب لاحقة شكك كثير من السياسيين والقانونيين في مشروعيتها.
أما العرب فقد كان تاريخهم مع الدعاية من نوع آخر فنجح معسكر اليسار بتبني قضايا المساواة، وتحرير القدس، والتصدي للعدوان بشكل سيطر على غالبية الجماهير العربية المغلوبة على أمرها، وقام بتشويه كل من خالفه الرأي واعتبار أي دولة مسالمة أو تربطها علاقات مصالح مع أمريكا والغرب، حتى ولو كانت دول صادقة في دعمها للنضال العربي الحقيقي، كدولة عدوة للأمة والتحرر والمقاومة. ووجدت هذه الدول والأحزاب في دعاية دول المعسكر الشرقي التي نجحت في إظهار نفسها مناصرة للضعفاء المستعمرين، وجماهير العمال المظلومة، قوالب إعلامية جاهزة لتضليل الجماهير لفترة طويلة، ليتبين اليوم أن هذه الدول أظلم من الأفعى لشعوبها وأنها استعبدت جماهيرها عمالها الكادحة بشكل منظم غير مسبوق ويفوق بكثير ظلم الرأسمالية للعمال.
السياسة والدعاية مثل المرايا، ولكنها مرايا غير صادقة الصورة، فهي أما أن تكون مقعرة تختزل الأمور، وتقلل من أهمية الخصوم وقضاياهم، أو تكون محدبة تبالغ في تشوية خطاياهم وشرورهم، وتضخم إنجازات الذات وتخفي سوأتها. أما الخلفية الثابتة التي استندت إليها هذه الصور فكانت دائما قضية فلسطين التي سيطرت على عقل ووجدان تاريخ العرب الحديث، حيث إن جميع الأنظمة العربية استغلت هذه القضية بشكل أو بآخر وصل في واقعه إلى حد التناقض التام بين المواقف الحقيقية المعلنة مع السياسات الخاصة المتبعة فعليا، بشكل اتضح فيما بعد أنه وبعد تطور وسائل الاتصال وخروجها عن السيطرة التامة للأنظمة أنه مجرد عملية خداع كبرى متواصلة.
تبنى هذه القضية الرئيس المصري الراحل عبد الناصر، ونجح النظام المصري في استثمارها واستثمار الشعور القومي العربي بشكل غير مسبوق وأشبه ما كان باستثمار هتلر لمشاكل ألمانيا الاقتصادية في الدعاية ضد اليهود. فقد شرط عبدالناصر نجاحه الموعود في تحرير فلسطين بتغيير كامل الأوضاع في العالم العربي، وبدل من أن يشعل حرب مع إسرائيل أرسل جيشه لليمن وهاجم جنوب السعودية. وكانت تعيينات عبد الناصر لأناس مثل عبد الحكيم عامر على رأس الجيش المصري وصلاح نصر في المخابرات لا تشير لاستعدادات حقيقية لمحاربة إسرائيل بل ضبط الجيش المصري، وضبط الداخل المصري، ولذلك هزمت مصر في ست ساعات، وأكد عبدالناصر قيادته في حركة مرسومة لاستقالته وإعلان مسئوليته عن الهزيمة وخرجت جماهير الحزب الاشتراكي مطالبة له بالعدول عن قراره. واتضح فيما بعد أن الملك فيصل رحمه الله هو العدو الحقيقي الذي كانت إسرائيل وأمريكا تتوجسان منه.
أما فيما يتعلق بالأحزاب الاشتراكية الأخرى وخصوصا البعثي منها، فقد فهمت الاشتراكية على أنها مشاركة العسكر في أموال الشعوب فقط واستعبدت شعوبها بشكل محكم بمساعدة مخابرات ألمانيا الشرقية سابقا. وقد أدلى الرجل الثاني في حزب البعث السوري عبدالحليم خدام بتصريحات في منتهى الخطورة لقناة العربية، اعترف فيها أن أحزاب البعث استخدمت القضية الفلسطينية كستار لتعزيز تسلطها على الشعوب فقط. وحسب خدام فقد كان الشغل الشاغل لحكومات البعث السوري التي مثلها كوزير خارجية، ورئيس حكومة تعزيز قبضتها الشمولية على السلطة، ونهب مقدرات الشعب، أنه لم يكن لها نية لمحاربة عدو الخارج وعدوها دائما كان في الداخل لذا انسحب الجيش من الجولان، وتم تجميد الوضع على الجولان. لذا يمكن القول إن حروبهم مع شعوبهم كانت حاضرة دائماً وحربهم مع إسرائيل مؤجلة بشكل دائم حتى “الوقت المناسب”. وهنا ضخمت المرايا المحدبة الدور القومي لهذه الأحزاب، وأخفت المرايا المقعرة قمعها الدائم لشعوبها.
وقد ينطبق القول أيضا على الفصائل الفلسطينية المختلفة، فكان المرحوم عرفات يردد ألا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وكان صوت المعركة حاضرا في الخطب فقط أما سلاح تحرير الأرض فكان موجهاً لفصائل فلسطينية أخرى أو للدول المستضيفة لمنظمة التحرير تارة في الأردن، وأخرى في لبنان. الجميع في الواقع ضخم دوره المؤجل في مقاومة العدوان واستحضر دوره في تعزيز سيطرته على شعبه، ولكن أبواق الدعاية صورت الوضع عكس الواقع تماما، ومن لم يقتنع بالدعاية اقتنع بالسجن. خمسون عاما ونحن ننتظر الساعة المناسبة بينما إسرائيل تغير الوضع على الأرض.
أيامنا هذه استحضر الخطابات ذاتها النظام الإيراني الذي لم يخل خطاب من خطاباته من الحديث عن قضية القدس، وبني شبكة كبيرة من العملاء في منطقتنا العربية بحجج مضخمة عن تحرير القدس بينما الهدف الحقيقي منها السيطرة على محيطه العربي الذي يمر بحالة غير مسبوقة من الضعف والتفكك. حتى الحماقات التي ارتكبها حزبه في لبنان من خطف لجنود إسرائيليين في عام 2006 وتعريض لبنان برمته إثرها للدمار صورت على أنها نصر لا زال حسن نصر الله يضخمه حتى اليوم بينما سلاح حزبه يمارس مقاومته المزعومة في ترويع اللبنانيين الشرفاء في لبنان، والمساعدة في قتل الأغلبية السنية المغلوبة على أمرها الثائرة في سوريا.
الغريب أنه انتهى عصر الشموليات والخطب الرنانة من العالم بعد السقوط المدوي لعرابية في دول الاتحاد السوفيتي سابقا، ولكنه بقي صوته مدويا في منطقتنا وفي محيطها القريب مما يدل على تخلفنا الفعلي على مستوى الوعي والممارسة، فجاء الربيع العربي كرد فعل طبيعي على التناقض الصارخ بين دعاية الدول العسكرية الشمولية وواقعها، فلا هي بنت مستقبلاً اقتصادياً وعلمياً لشعوبها، ولا هي خاضت حروب الاستقلال المزعومة، فكان ما نشهده اليوم من محاولات تغيير الواقع الأليم التي اكتشفت الشعوب المغلوبة على أمرها زيفه وخداعه. والأمر الأكثر إيلاماً هو أن الدول التي ضيعت جهودها وأموالها في إنتاج أسلحة الدمار والتدريب عليها تصر على جلب هذا الدمار للجميع، وخاصة الدول المعتدلة ذات النمو الاقتصادي في جوارها لأن هذه الدول تشكل مصدر خطر عليها لأنها ترسم واقعاً لتطلعات شعوبها في التنمية لا في التدمير والحجة الحاضرة دائماً هي تحرير فلسطين والقدس. والواقع هو أنه لو أن إسرائيل خططت وأنفقت كل طاقاته لتوصلنا لما وصلنا إليه فلم تكن تستطيع ذلك، بينما أوصلنا إياه وللأسف جزء من أمتنا العربية والإسلامية ما زال يتبنى أطروحات قديمة، وحلول عقيمة وإيديولوجيات عفى عليها الزمن. إيديولوجيات العنتريات والحروب اختفت من العالم المتحضر وبقيت تعشعش في بؤر أخرى متخلفة في منطقتنا وفي بعض مجاهل أفريقيا فقط. فعصر اليوم هو عصر التنافس الاقتصادي والمعرفي، عصر تحرير العقل من الخرافات والصور المضخمة، فعاجلاً أم آجلاً ستتحطم المرايا الخادعة وتختفي من محيطنا لنرى واقعنا كما هو لا كما يصور لنا. والأمر المحزن حقاً هو أن يمر علينا عيد لا نفرح به، ونكد فرحتنا مشاهدة دماء إخواننا في سوريا وغيرها تسفك دائما بهذا الشكل البغيض. كل عام وأنتم بخير وأعاده الله على أمتنا بالسلام والوئام.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif