إن استطاع إنسان أن يشعر بحبٍّ جارف، لا يُسألُ إن كان هدف هذا الحبّ يستحقـّه.
المُحبّ لا يحكم بالعدل. المُحبّ يرتمي في مهبّ الشغف، مُستسلماً إلى شعور بالامتنان العميق لما جعله يتلألأ بهذا النور.
حبّ الوطن، خاصة، يشعّ في الزمن كوجه النعمة، يربط القديم بالجديد، ويُدشـّن العالم، في كل لحظة، ويُكسب حياة الإنسان مناعة ضد الخوف.
إن فراغاً هائلاً يملأ هذا الكون الذي ننتمي إليه جميعاً، فلا يشعر به إلا أولئك الذي يبحثون عن السر الذي يختبئ في مكانٍ ما من الكون. إنه سر الوطن.
حبّ الوطن مُضادٌ للشعور باللاقيمة واللاجدوى واللامبالاة. إنه شعورٌ طاغٍ بالقوة والأمان. إنه الاختفاء التام بأنك “شيء عادي”.
إن مجرّد الشعور بالانعدام التام للهدف لدى الطفل، مثلاً، يجعله يسعى إلى امتلاك كلّ شيءٍ، حتى دُمى أخته.
“حبّ” السيطرة ينمو مع الطفل، وما يحميه من هذا “الحبّ” هو أن يتعلـّم حبّ الوطن: حبّ أمه، وأخيه، وأبيه، وأخته، والمدرسة، والمعلمين، والزملاء، فينمو معه حبّ الوطن كحاجة أساسية في حياته.
حبّ الوطن يُعلـّم الإنسان الثقة بالنفس، والثقة بالآخرين.
الإنسان بحبّ الوطن يُكوّنُ فيه وفاقاً مع نفسه، ومع وجوده، وفي وسعه أن يـُحقق أمنياته وأحلامه، وبه يتبصـّر أعماقه، ويزداد حماسة لاكتساب الحياة.
مـَنْ لا يستبطن في أعماق وعيه، ولا وعيه أيضاً، الانتماء إلى وطن، وحبّ وطن، يكون كمن خلع روحه، كمن يدور في حلقة جهنمية من اللاجدوى. رؤاه للخالق، وللحياة وللكون، ولنفسه، رؤى عوراء، عرجاء.
حبّ الوطن هو وصـْلٌ بين حاضر يـُفكـّر الإنسان فيه، وماض ٍيستذكره، لتحديد موقعه في زمان يسيلُ نحو لحظة فيها سيلٌ من التساؤلات الوجودية، وإلاّ فقـَدَ تلك الروابط التي تجعله جزءاً من الوجود.
حبّ الوطن أن تكونه، لا أن تقوله. أن يُعزز في حبك الثقة بنفسك. أن تـُحبّ، هو أن تكون حبيبك وأن يكونك.
السؤال ليس كيف يـُحبّ الإنسان وطنه، وإنما كيف يكون جديراً بهذا الحب.
في الصياغة الأولى يكون التباين بين وضع الإنسان وبين ما يبتغيه، وتكون الحكمة في التقريب بينهما.
في الصياغة الثانية، يكون التباين عن الذات وعن الفكرة التي عنده عن هذه الذات.
من هنا تتأسس أخلاقية الواجب نحو الوطن، وتتوجه إلى الإنسان كإنسان. وقبل أن يكون الإنسان إنساناً، من السنن الكونية أن يكون.. مواطناً.
الولع بالوطن ليس قـدَراً خارجياً. إنه نبعٌ. هو نبع داخلي بامتياز. يسيل ويتفجـّر ولا ينحبس، لأنه ليس موصولاً بثلوج ولا بشتاء.
حبّ الوطن هو الذكاء، الذي ليس مُجرّد عقل. هو القلب، الذي ليس مُجرّد عاطفة وشعور. هو الموهبة المصقولة بالثقافة وبشغف، لا يشبع ولا يرتوي، بالعمل والبناء والإخلاص والكدّ والنزاهة. هو كتلة أحاسيس ترفعها كينونة الإنسان إلى أرقى مستويات النبل والجمال.
كان سقراط يعتقد أن الفضيلة أهمّ من أثينا، لكنه، في الوقت نفسه، أكد أن ذروة الفضيلة هي احترام أثينا وحبّها والولع بها.
Zuhdi.alfateh@gmail.comفيينا