البلدان التي تعتمد في الدفاع عن نفسها على أنظمة مختلفة، لتأمين القدرة البشرية الدفاعية العسكرية أي نظام «التجنيد الإجباري» ونظام الاحتياط. هذه البلاد تقوم في الواقع بتحويل عشرات الألوف من السكان المدنيين بأعمار معينة إلى عسكريين يمتلكون افتراضا التدريب الكافي والمهارات القتالية واللياقة النفسية والصحية والجسدية والتكيف مع المتغيرات التي تفرضها الحرب.
ومن هنا يتبادر إلى الذهن السؤال: كيف أن الشباب بأجسادهم الغضة وأنماط عاداتهم المدنية التي تتمحور حول كسب القوت والاهتمامات العائلية والنزوح المستمر إلى حياة الرفاهية، والدلال ونقول كيف يمكن أن يتحول هؤلاء خلال مدة زمنية محددة إلى رجال عسكريين تخشنت أجسادهم وقست عواطفهم وتبدلت أنماط حياتهم واستجابت أجسادهم ونفسياتهم مع قسوة القفار وعبوس الطبيعة والتعب، على خلفية الانصياع والإذعان إلى الأوامر العسكرية من أوامر ونواهٍ.
لاريب أن مطامع الأنظمة العسكرية في تطبيع الأفراد وتحويلهم إلى معاييرها لا يحالفها النجاح دائما بنسبة متساوية من التطبيع والتكيف، فهناك نسبة مئوية من الأفراد تتعثر في عملية التطبيع بفعل إصرارهم على التمسك بمعايير وأنماطهم المدنية السابقة التي ألفوها، أو حسب الموروثات العائلية والقبلية ومثلهم الأخلاقية.
ولعل أقسى الصراعات التي تعترض التحويل إلى الحياة العسكرية هي تضارب القيم الأخلاقية الإنسانية مع أهداف وقيم القوات المسلحة الرامية إلى حماية الوطن، وتدمير العدو وإلحاق الهزيمة به، فالدراسات السيكولوجية المنهجية التي جرت في أعقاب الحرب العالمية الثانية كشفت النقاب عن وجود نسبة مئوية معتبرة من العسكريين الذين امتنعوا عن إطلاق النار على العدو أثناء القتال فاستحقوا العقاب أو السجن، بسبب تسلط المشاعر التي تحرم قتل النفس البشرية.
ولاريب أن هذه الشريحة من العسكريين تعي أهمية الدفاع عن الوطن ولزوم قتل العدو عند اعتدائه على أرض الوطن حيث لا خيار في هذا الشيء الإلزامي، إلا أن التمذهب العسكري كان ضعيفا غير نافذ وعملية التحويل كانت مبتورة ناقصة لذلك باتوا جبناء في ساحة المعركة يفضلوا أن يُقتلوا على أن يَقتلوا.
إن هذا التصرف الإنساني الرفيع الذي يصح في المجتمع المدني ولكنه يكون إخفاقاً في البيئة العسكرية يحتاج إلى معاملة خاصة في التطبيع مع القيم العسكرية وشعاراتها. وهنا يبرز دور القائد والأمثلة كثيرة شاهدناها في اعتداء العراق على الكويت والوقوف على درجة تطبع الأفراد التي عادة ما تظل متخفية قابعة مع مفاهيمها ومثلها حتى تنكشف للقائد من خلال الاتصالات المباشرة الهادفة إلى سبر مواقف أفراده، والوقوف على درجة تطبعهم مع بيئتهم العسكرية الجديدة فكرا، وعقيدة، وسلوكا، عند القائد وتمسكه بالإيدولوجية العسكرية في معظم الأحوال تكون الأمور متضاربة مع رغبات الفرد وحرياته الشخصية التي اعتاد على ممارستها أثناء حياته المدنية، من البديهي أن طبيعة الحياة العسكرية تستوجب وجود قدر مناسب من اللياقة النفسية والتوازن الانفعالي. الذي يقود في غالب الأحيان إلى انصياع الأفراد وارتفاع معنوياتهم، لذلك تعنى الجيوش الحديثة في الانتقاء السيكولوجي، والنرجسية المستبدة التي تجد في السلطة الممنوحة لها وسيلة للتعويض عن مركبات نقص، فالعسكري في هذ الموقف يكون عرضة لعدوان نرجسي ظالم ومضاد يمارسه قائد غير سوي يتخذ من الإذعان معيارا للانضباط ويرفض أن يتعامل مع الفرد إلا على أساس الاستسلام لسلطان نوازعه ونرجسيته.
أما القائد الناجح هو الأب والأخ لجنوده والسلطة عموما تغرس فيه مفاهيم الود التي تسعى المؤسسة العسكرية تنميتها في نفوس أمثاله.
إذن فهناك عوامل تلتصق بالحياة العسكرية وتكون السبب للاضطراب النفسي عند بعض الأفراد وهذه العوامل تشمل:
- الجبرية على العيش الجماعي في بركسات ومضاجع جماعية.
- القيود المفروضة على الحرية الشخصية.
- رتابة ونمطية النوم والطعام والتدريب.
- الحرمان الجنسي للمتزوجين.
أما في ما يتعلق بعوامل الاضطراب النفسي التي يتوجب أن يعالجها القائد الناجح فهي محاولة استدراج الفرد إلى فهم الحياة العسكرية والتكيف معها، وأن يعمل على تبديد مخاوف القتال من المعركة، لهؤلاء الذين يفتقرون إلى معرفة ظروف المعركة ولم يعيشوا في أجوائها، والخوف بصورته البيولوجية يحدث تبدلات كيماوية أهمها زيادة أفراز الأدرينالين وارتفاع التوتر الشرياني وسكر الدم وكل ذلك لتهيئة العضوية للفاعلية والتأهب لمواقف الخطر الذي يهدد العضوية. فهذه التبدلات البيوكيمياوية تشحن الجسم بالطاقة الكبيرة رغم الإنهاك الجسمي الذي يغذي الجندي وعلى ذلك يظهر في خطوط القتال الأمامية خاصة ما يسمى «بصدمة الموت» وتتعاظم نسبة الإصابات النفسية القتالية في الأحوال عند بعض العسكريين الذين يرون أصدقائهم يقتلون.
إن هذا التفاعل بين القائد ومرؤوسيه هو بلا ريب سر القيادة الناجحة وأحد العوامل الهامة لتحقيق النصر في المعركة والزخم الكبير الذي يمنحه القائد للأفراد، في تحمل شدة القتال وظروفه ومخاوفه.
التفاتة:
رافق الأسود على أن يكون فأسك حادا
- الرياض