سؤال كبير يتم تداوله منذ بعض الوقت يتعلق بمدى إمكانية أن تكون الصحيفة، أو الوسيلة الإعلامية عموماً، محايدة في الوقت الحاضر؛ فهل بوسع أي وسيلة إعلامية في هذا الزمن «المنفتح» أن تكون محايدة وتستمر في المحافظة على قرائها ومتابعيها أم أن المتلقين سينصرفون عنها إلى متابعة الوسيلة الإعلامية التي توافق ميولهم وانحيازاتهم الفكرية، سواء كانت تلك الوسيلة صحيفة أو محطة إذاعية أو تلفزيونية أو غيرها؟
نتذكر أن مدير عام هيئة الإذاعة البريطانية، المستقيل من عمله والمنتقل إلى عمل إعلامي آخر، «مارك تومسون» قد قال وهو بصدد الانتقال من عمله في الـ «بي بي سي» إلى عمله الجديد في رئاسة تحرير صحيفة «نيويورك تايمز» أن قواعد الحياد الإعلامي قد تغيرت في الوقت الحاضر بسبب اشتداد المنافسة بين وسائل الإعلام وتزايد عدد البدائل المتاحة للمتلقي، بما في ذلك مواقع الإنترنت.
ومن منطلق هذه القناعة فقد طلب «تومسون» من القنوات التلفزيونية في الـ «بي بي سي» أن لا تركن إلى الحيادية بل تنتهج طريقة تشبه ما تنتهجة محطة «فوكس نيوز»، وهي المحطة المشهورة بتطرفها الشديد وأيديولوجيتها المحافظة..!!
ما انتهى إليه «تومسون» بعد تجربته الطويلة يمثل، بصراحة، خيبة أمل وانتكاسه لكل من يؤمن بالدور الإيجابي للإعلام وعدم الانسياق خلف الإثارة وتملق المتلقي بأي ثمن عن طريق تكريس «الفكرة» التي يحبها المتلقي حتى لو كان ذلك بتلفيق التقارير وتحوير الحقائق.
إن أي إعلامي يعرف أن «القصة الإخبارية» الواحدة يمكن عرضها بأكثر من طريقة، وأن نفس القصة يمكن أن تُصاغ لتعطي إيحاءات مختلفة تماماً عن حقيقة ما جرى. ويمكن لأي إعلامي أن ينقل تصريحاً صحفياً لمتحدث ويخرجه عن سياقه الأصلي لكي يدل على شيء مختلف تماماً عما قصده ذلك المتحدث..!!
وعندما يكون الإعلام غير محايد ويتدخل بشكل مقصود بتشكيل تصورات المتلقي عن الأحداث والأخبار فهو لا يكون إعلاماً بل تضليلاً و»بروباغندا»، وهذا - للأسف - ما تفعله بعض الوسائل الإعلامية التي تعتبر نفسها ملتزمة بخط سياسي أو فكري محدد لا تخرج عنه فتمضي في تحريف وتلفيق التقارير الإخبارية بما يخدم خطها، أو حينما تتملق المتلقي فتقدم له ما تعتقد أنه يرضيه حتى لو كان ذلك على حساب الحقيقة.
بالطبع لا يمكن أن يكون الإعلام محايداً بنسبة مائة بالمائة لأن الإعلاميين هم في النهاية بشر وقد لا يكون بوسعهم التخلص بالكامل من ميولهم التي قد تنعكس بشكل تلقائي على ما يقدمونه في وسائل الإعلام حتى لو حاولوا الحيادية، لكن ما هو غير مقبول أن يكون الانحياز ونبذ الحيادية نهجاً مقصوداً بهدف التضليل وانتصاراً لإيديولوجية معينة. وغير المقبول، أيضاً، أن يكون عدم الحياد هو انسياق نحو تحقيق شعبية أو لغايات اقتصادية ربحية.
حقاً لقد دخلنا عصراً إعلامياً جديداً ومختلفاً عما سبقه؛ وإلا فمن كان يتصور أن أهمية «الحيادية» في الإعلام يمكن أن تكون في يومٍ ما محل تساؤل أو أن يدعو مدير عام هيئة الإذاعة البريطانية العريقة إلى التخلص من «الحيادية» لأن عصرنا لم يعد يستوعبها؟!
alhumaidak@gmail.comص.ب 105727 - رمز بريدي 11656 - الرياض